لم تكن حملة “لا تذهب للعراق” التي تصدّرت مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر مجرد صرخة عاطفية عابرة، بل عبّرت في عمقها عن تراكُم تاريخي طويل من القلق الشعبي المرتبط بذاكرة الزيارات الرئاسية الجزائرية إلى بغداد. الشرارة انطلقت من مقطع مؤثر لسيدة جزائرية تتوسل الرئيس عبد المجيد تبون ألا يذهب، متحدثةً بمرارة عن تجربة الراحل هواري بومدين الذي تقول الروايات إنه أُصيب بمرض غامض بعد زيارة رسمية إلى العراق عام 1978، وانتهت حياته بعد أقل من عام على تلك الرحلة، في ظروف لا تزال إلى اليوم غامضة ومفتوحة على كثير من التأويلات.
صحيح أن الرواية الرسمية لم تُؤكد فرضية التسميم، ولم تتهم العراق بشكل مباشر، إلا أن فرضية “المكيدة الصامتة” ظلت حاضرة في المخيال الشعبي، تتناقلها الأجيال كأنها سرّ دفين لم يُكتب له أن يُكشف. وقد زاد من توتر هذه الذاكرة التاريخية حادثة أخرى وقعت في عام 1981، حين تم إسقاط طائرة تقل وزير الخارجية الجزائري الأسبق محمد الصالح يحياوي فوق الأجواء السورية، ما أدى إلى وفاته، في واقعة وُجهت فيها أصابع الاتهام بشكل غير رسمي إلى النظام العراقي، الذي كان آنذاك في ذروة توتره الإقليمي وحساسيته من الحضور الجزائري النشط في ملفات المنطقة.
ومع ذلك، اختارت الجزائر الرسمية، بقيادة الرئيس الشاذلي بن جديد حينها، عدم التصعيد، بل سعت إلى احتواء الحادث بصمت ديبلوماسي، وامتنعت عن تحميل العراق المسؤولية المباشرة، إما لعدم توفر أدلة قاطعة، أو حرصًا على “الخصوصية الأخوية” التي كانت تُغلّف العلاقات بين البلدين. كما كان لطلب ملحّ من القيادة العراقية دورٌ في امتصاص الحرج السياسي، خاصة في ظل تشابك العلاقات بين بغداد وعدد من العواصم العربية، وحرص الجزائر على الحفاظ على توازناتها الإقليمية.
لكن تلك الحوادث، وإن طُويت رسميًا، لم تُمحَ من الذاكرة الشعبية الجزائرية. ولهذا، تعود الآن لتطلّ برأسها في خضم التحضيرات الجارية لقمة بغداد المزمع عقدها قريبًا، والتي دُعي إليها الرئيس تبون ضمن مساعي العراق لإعادة تموقعه الديبلوماسي على المستويين العربي والإقليمي. فالهواجس القديمة، المتجذرة في وجدان شريحة واسعة من الجزائريين، تتفاعل اليوم مع واقع أمني متوتر في العراق، وقلق عام من سياسات محور طهران-بغداد، في ظل صراعات متشابكة وتوازنات متحولة في المنطقة.
غير أن هذا الحذر الشعبي لا يبدو كافيًا لتعديل المسار السياسي الرسمي في الجزائر، التي تنظر إلى الزيارة من زاوية مختلفة تمامًا. فتبون، الذي يقود مرحلة استعادة الدور الإقليمي الجزائري بعد سنوات من الانكفاء، يرى في المشاركة بقمة بغداد فرصة لإعادة الجزائر إلى دائرة التأثير العربي، خصوصًا في ملفات الشام والخليج، حيث بقي الحضور الجزائري رمزيًا أو غائبًا منذ بداية الألفية الجديدة. كما أن الجزائر تراهن على هذه المحطة لإعادة بعث ديبلوماسيتها الاقتصادية، عبر بوابة التعاون الطاقوي مع العراق، وهو بلد غني بالنفط والغاز لكنه يعاني من ضعف البنية التحتية والخبرة التشغيلية، ما يجعل من الشراكة مع الجزائر خيارًا استراتيجيًا للطرفين.
أكثر من ذلك، ترى الجزائر أن العراق اليوم لا يشبه عراق الأمس، لا من حيث البنية السياسية، ولا من حيث السياق الإقليمي والدولي. فالنظام الحالي، رغم هشاشته، يُظهر رغبة في التحرر من الاستقطابات الحادة، ويحاول تموضعه كوسيط أو منصة للحوار بين قوى متناحرة، ما يُشجع الجزائر على التفاعل معه دون الخوف من الارتدادات التي كانت محتملة في زمن صدام حسين.
في النهاية، يبدو أن الحملة التي دعت تبون لعدم الذهاب إلى العراق، على الرغم من صدق مشاعرها الشعبية، لا تملك من التأثير ما يجعلها تُغيّر مسار القرار السياسي. فالجزائر، التي تدير ملف علاقاتها الإقليمية اليوم بعقلانية واقعية، تُدرك أن اللحظة السياسية تتطلب الانخراط لا الانعزال، وأن استعادة المكانة تبدأ من القمم لا من الغياب عنها. ومن هذا المنطلق، فإن الزيارة – إن تمت – ستكون أكثر من مجرد مشاركة في قمة، بل قد تكون لحظة لإعادة تعريف العلاقة الجزائرية-العراقية على أسس جديدة، تتجاوز مآسي الماضي، دون أن تنكرها.