تمثل “سناء سلامة دقة” حالة نادرة ومركّبة من النضال الفلسطيني الذي يجمع بين الشخصي والوطني، بين الألم العائلي والتحدي السياسي. هي ليست فقط زوجة الشهيد الأسير وليد دقة، بل شريكة مسيرته الفكرية والنضالية، وواحدة من الأصوات النسوية الأكثر وضوحاً في فضح سياسات الاحتلال، خاصة في سياق اعتقال الأسرى وسلب إنسانيتهم، وحتى بعد موتهم.
التجربة الإنسانية خلف القضبان
رحلة سناء بدأت فعليًا مع ارتباطها بوليد دقة، أحد أبرز مفكري الحركة الأسيرة الفلسطينية، الذي لم يكن مجرد معتقل سياسي، بل رمز لنموذج المثقف المقاوم من داخل الزنزانة. وليد، الذي قضى 38 عاماً في سجون الاحتلال، كان شاهداً على تحولات كبرى في المشهد الفلسطيني، وكتب من داخل الأسر نصوصاً مؤثرة عن الهوية والحرية والتجربة الإنسانية خلف القضبان. لم يكن منخرطًا في العمل العسكري المباشر بقدر ما كان يُهدد منظومة الاحتلال بمشروعه الفكري، ولهذا كان بقاؤه في السجن بهذه المدة الطويلة تعبيراً عن خوف الاحتلال من الفكر أكثر من السلاح.
سناء، في هذا السياق، لم تكن زوجة تنتظر، بل مناضلة تصنع الفعل خارج الأسوار. حوّلت قضية وليد إلى منصة دولية لفضح ممارسات الاحتلال بحق الأسرى، وكانت خلال سنوات اعتقاله تتنقل بين المحاكم، والمؤتمرات، والمقابلات، حاملة قضية الأسرى كشأن إنساني يتجاوز السياسة. وحين رُزقا بابنتهما ميلاد عبر التلقيح الصناعي في ظروف معقدة عام 2020، أصبحت قصتهما رمزاً للحياة في وجه القمع، والأمل في ظل الأسر، وكأنهما معًا يكسران حدود الزنزانة بالحب والإصرار.
قمع الصوت الفلسطيني
استشهاد وليد دقة في أبريل 2024 لم يُنهِ قصته، بل بدأ فصلاً جديداً في النضال، هذه المرة تقوده سناء وحدها، في وجه دولة ترفض حتى اليوم تسليم جثمانه، وترفض الاعتراف حتى بموته. إسرائيل لا تكتفي بحرمانه من العلاج داخل السجن، بل تواصل عقاب العائلة بعد الاستشهاد، في انتهاك سافر للكرامة الإنسانية والقانون الدولي.
اعتقال سناء، بذريعة منشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يأتي في سياق ممارسات ممنهجة لقمع الصوت الفلسطيني من داخل الخط الأخضر. لكن توقيت الاعتقال، ومكانه، والسياق الإعلامي المصاحب له، يكشفان عن بعد أيديولوجي أعمق: المستهدف ليس فقط سناء، بل أي سردية فلسطينية تصر على الوجود والكرامة في مواجهة الرواية الرسمية الإسرائيلية. وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير لم يخفِ نواياه، ودعا صراحة إلى ترحيلها، كأنها “غريبة” في وطنها، وكأن الانتماء لفلسطين بات تهمة تجرّ إلى السجن والنفي.
هشاشة المشروع الإسرائيلي
محاولة تحويل سناء إلى متهمة بالإرهاب، لمجرد تعبيرها عن رأيها، هو تعبير عن مدى هشاشة المشروع الإسرائيلي عندما يواجه النساء، والكلمات، والتاريخ الشخصي. إسرائيل، التي لطالما ادّعت أنها دولة قانون، تواجه امرأة فقدت زوجها في سجونها، وتجرّمها لأنها ما زالت تتحدث.
تاريخ سناء ووليد هو تاريخ مقاومة لا تنكسر، حتى في أشد اللحظات ظلمًا. هو تاريخ يروي كيف يمكن لحب أن يصير مشروعاً نضاليًا، وكيف يمكن لشخصين أن يشكّلا معاً ذاكرة جماعية تتحدى النسيان والخذلان. والرسالة الأهم التي تخرج من هذه القصة أن النضال الفلسطيني لا يتوقف عند الأسر أو القتل، بل يتجدد، بصوت امرأة، ودفتر ذكريات، وطفلة تحمل اسم “ميلاد”.