في قطاع غزة، حيث تعصف الرياح بأكثر من مجرد رمال الصحراء، يتصاعد صوت الغضب الشعبي، لا ضد المحتل، بل ضد من يفترض بهم حماية الشارع والنظام. الحديث هنا عن وحدة سهم التابعة لحركة حماس، والتي تحولت في الأشهر الأخيرة من مجرد جهاز لإنفاذ القانون إلى قوة مسلحة بكثافة، يبدو أن وظيفتها الرئيسية أصبحت بثّ الخوف في نفوس المدنيين العُزّل. إنها دراما تتكشف فصولها ليس على خشبة مسرح، بل في أزقة وشوارع القطاع المحاصر، وعلى مرأى ومسمع منصات التواصل الاجتماعي التي تنقل وقائع مؤلمة، وتُعلي صرخات استغاثة لا تجد آذانًا صاغية إلا من ذوي القلوب الحية.
لم تكن وحدة “سهم”، التي أُنشئت أصلاً لفرض النظام ومحاربة الفساد، لتتوقع أن تتحول إلى كابوسٍ يُطارِدُ الغزيين في شوارعهم الضيقة، وفي بيوتهم الآمِنة، بل وفي وجدانهم المُثقل أصلاً بجراح الحروب والحصار. اللقطات المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي لم تعد تُظهر “رجال أمن” يحمون المواطنين، بل ميليشيات مسلحةً تَعتلي ظهور الشاحنات، تَنهالُ بالضرب على مواطنين عُزّل، تُطلق الرصاص في الهواء لتُرهب، وتُداهم المنازل ليلاً كأنها غزاةٌ في أرضٍ محتلة!
لقد فاضت الشاشات الصغيرة لمواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو تُوثّق وقائع تقشعر لها الأبدان: ملثمون يُطلقون النار على أقدام شبان في شوارع قطاع غزة، تحت ذريعة مكافحة السرقة، ويهتفون بشعار “وحدة سهم”. هنا تتساءل العقول المنصفة وتصرخ القلوب المكلومة: من الذي أعطى هؤلاء الأمر بإطلاق النار وتطبيق ما يُسمى “القانون” دون محاكمة؟
المفارقة المؤلمة، بل واللا منطقية، تكمن في أن هذه “العدالة الفورية” تُطبّق على “الحرامية” الصغار، بينما يُترك المجال واسعًا أمام جشع وظلم “الحيتان” من التجار الكبار الذين رفعوا أسعار السلع إلى عشرات الأضعاف، لتضاهي أسعار أغلى الدول حول العالم. أليس من الغريب أن يصمت هؤلاء “الملثمون” بشكل مطلق على وصول أسعار كيس الطحين، رغيف خبز الغزيين، إلى 1500 شيكل، ويستمر هذا النهج الفاجع منذ أسابيع بلا حسيب ولا رقيب؟.
وإذا كان هؤلاء الذين يُقال إنهم تابعون لوحدة “سهم” لا يحمون الناس فعلًا من الاستغلال والاحتكار، ويُطلقون النار على المواطنين تحت حجة أنهم “حرامية”، ألا ينبغي عليهم أولًا متابعة أسعار المواد الغذائية، وأهمها الطحين، ثم أدوات النظافة الشخصية التي ارتفعت إلى ثلاثة أضعاف هذه الأيام؟ ولماذا تصمت على الكثير من الانتهاكات الأخرى التي تجري في غزة، والتي تُفقد المواطن أبسط حقوقه في ظل هذه الظروف القاسية؟.
الأدهى من ذلك كله، هو الصمت المطبق لوحدة “سهم” على استغلال أصحاب محلات الصرافة للناس، عبر أخذهم “خاوة” – أي نسبة إجبارية – تصل إلى 35% على أي حوالة مالية تصل من الخارج، أو من الموظفين الذين يتلقون رواتبهم من البنوك الفلسطينية، بذريعة عدم وجود سيولة نقدية. أليس من المعقول، بل يكاد يكون مؤكدًا، أن كل هذا الفساد المنظم يتم بتوافق وتنسيق مع حماس التي تقف وراء “سهم”؟ وهل هناك مكاسب تُجنى من خلف هذا الاستغلال، وأشخاص مسؤولون متورطون في هذه الجرائم يُسكت عنهم من قادة الحركة؟ إن هذه التساؤلات المشروعة تزيد من مرارة الواقع، وتُفقد الثقة في أي ادعاءات بحماية الشعب أو تطبيق العدالة.
الغريب والمقلق حقًا هو اعتماد وحدة “سهم” التكتيكات العسكرية في تعاملها مع المدنيين. حيث تنتشر لها مقاطع فيديو كثيرة عبر قناتها على “تلغرام” توثق عمليات مداهمة، اعتقال، بل وإعدام ميداني لأشخاص تصفهم بـ”المطلوبين” أو “المجرمين”. إلى جانب ذلك، تُظهر المقاطع تكسيرًا لممتلكات المواطنين، وإطلاق النار على أفراد دون محاكمة أو مبرر قانوني واضح. هذه المشاهد تعكس تحولًا خطيرًا في دورها، فبدلاً من أن تكون جهة أمنية تُعنى بتطبيق القانون وفقًا للإجراءات القضائية، تحولت إلى قوة تتعامل مع السكان بلغة العنف والترهيب، الأمر الذي زاد من حالة التوتر والخوف وانعدام الأمان في الشارع الغزي.
هذه التحولات في عقيدة “سهم” تُشير إلى صعود نمط من “العدالة الفورية” التي تُقصي القانون الطبيعي والإجراءات القضائية، وتستبدلها بمنطق السلاح والعقوبة المباشرة. ورغم ادعاء الوحدة أنها تحارب الفوضى وتحمي المجتمع، فإن طريقة عملها تخلق بيئة من الخوف الدائم وانعدام الثقة بين المواطن ومؤسسات السلطة. إنها معضلة حقيقية: كيف يمكن لقوة أن تدعي حماية المجتمع بينما هي تزرع الخوف في نفوس أفراده؟ هذا التناقض يدمر أي شرعية شعبية، ويُفكك النسيج المجتمعي الهش أصلاً تحت وطأة الحصار والحروب.
المفارقة أن انتقادات “سهم” لم تأتِ من الخارج فقط، بل من داخل حماس نفسها. مصادر مطلعة تُشير إلى توتراتٍ بين قيادات الحركة حول أداء الوحدة، حيث يرى بعض الكوادر أن هذه التصرفات تُسيء لسمعة الحركة وتُضعف شرعيتها الشعبية. بل إن هناك من وصفها بـ”الخطر الداخلي” الذي قد يُفجّر أزماتٍ لا تُحمد عقباها.
ففي الوقت الذي تُحاول فيه حماس تقديم نفسها كحركة تحررٍ وطني، يصعب تبرير وجود جهازٍ أمني يُمارس القمع بنفس أدوات الأنظمة السلطوية. والسؤال الذي يُطرح في الأروقة الداخلية: هل “سهم” تحمي النظام أم تُهيئ لانفجارٍ اجتماعيٍ قد يُطيح بكل المكتسبات؟.
الغزيون تعودوا على الموت تحت القصف، لكنهم لم يتعودوا على الموت تحت سياط من يفترض أنهم أبناؤهم. ما يفعله رجال “سهم” ليس مجرد قمع، بل خيانة لفكرة المقاومة ذاتها. كيف لحركة تحرر وطني أن تتحول أدواتها إلى أدوات قمع؟ كيف يقبل قادة حماس أن يُنظر إلى رموزهم كمجرمين بينما يدّعون مقاومة الاحتلال؟.
الشارع الغزي لم يعد صامتًا. هاشتاغات مثل #سهم_بترهب_الشعب و #كفى_انتهاكات تُظهر غضبًا متراكمًا قد ينفجر في أي لحظة. فالشعب الذي تحمل ويلات الحصار والحروب لن يصمت طويلًا على انتهاكات تُذكّره بأسوأ أيام الانقسام.
الخيارات أمام حماس واضحة: إما إصلاح “سهم” عبر محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وإخضاعها للقانون، أو انتظار ثورة غضب ستطيح بكل شيء. التاريخ يُعلّمنا أن الشعوب التي تقاوم الاحتلال لا تخاف من بطش الطغاة المحليين.
غزة لن تموت تحت القصف، لكنها قد تثور تحت القهر. والرسالة إلى قادة حماس واضحة: لا يمكن مقاومة الاحتلال بعقلية الاحتلال. فإما أن تعود “سهم” إلى دورها الحقيقي كحامية للشعب، أو ستُكتب نهايتها بأيدي الشعب نفسه. والسؤال الآن: هل ستتعلم حماس الدرس قبل فوات الأوان؟.