بعد قطيعة سياسية وتجارية دامت أكثر من عامين، بدأت ملامح تطبيع العلاقات بين الجزائر وإسبانيا تتشكل من جديد، في مشهد أعاد الأمل بإعادة بناء الثقة بين دولتين تربطهما الجغرافيا والمصالح في ضفتي المتوسط.
في مشهد لافت حمل الكثير من الرمزية، التقى الوزير الأول الجزائري نذير العرباوي، برئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، على هامش مؤتمر الأمم المتحدة الرابع لتمويل التنمية، الذي تحتضنه مدينة إشبيلية الإسبانية.
اللقاء، الذي نقلته وسائل الإعلام الجزائرية والإسبانية، كان الأول بهذا المستوى منذ بداية الأزمة السياسية بين البلدين في 2022.
العرباوي يلتقي سانشيز.. والمصافحة تعني الكثير
بحسب التلفزيون الجزائري الرسمي، عبّر سانشيز خلال اللقاء عن امتنانه لمشاركة الجزائر في المؤتمر، مؤكدًا على أهمية العمل معًا لتطوير العلاقات الثنائية، خصوصًا في ظل التحديات الإقليمية والدولية الراهنة.
اللقاء الذي وُصف بـ”الرسمي الودي”، لم يكن الوحيد، إذ استقبل ملك إسبانيا فيليب السادس، الوزير الأول العرباوي، وطلب منه نقل تحياته وتقديره إلى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في إشارة واضحة إلى رغبة ملكية في فتح صفحة جديدة.
من قطيعة 2022 إلى تقارب 2025
أزمة الجزائر وإسبانيا بدأت في مارس 2022 عندما أعلنت مدريد دعمها لخطة الحكم الذاتي المغربية في الصحراء الغربية، في خطوة اعتبرتها الجزائر “انقلابًا مفاجئًا” على موقف الحياد.
جاء الرد الجزائري حازمًا، بسحب السفير من مدريد، وتعليق اتفاقية الصداقة والتعاون الموقعة منذ 2002، وفرض حظر تجاري كامل على التصدير والاستيراد من وإلى إسبانيا.
طوال عامين، بقي الجمود سيد الموقف، إلى أن بدأت مؤشرات الانفراج تظهر تدريجيًا، بدءًا من لقاء وزيري خارجية البلدين في فبراير 2025 بجوهانسبرج، والذي فتح الباب أمام تقارب محسوب.
تقارب تفرضه المصالح.. والأمن في الواجهة
صحيفة “الخبر” الجزائرية وصفت التطورات الأخيرة بأنها “عودة للمنطق البرغماتي”، مشيرة إلى أن التاريخ المشترك والجوار الجغرافي، إضافة إلى المصالح الاقتصادية والأمنية، تجعل من تطبيع العلاقات مسارًا حتميًا للطرفين.
تتجاوز العلاقات الجزائرية الإسبانية الجانب السياسي، لتشمل ملف الغاز، الذي يعتبر محوريًا في علاقة البلدين، حيث تُعد الجزائر أحد أبرز موردي الغاز لإسبانيا. كما تشترك الدولتان في تحديات أمنية بالمنطقة المتوسطية، تتعلق بمكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية والجريمة المنظمة.
عودة السفير واستئناف التجارة.. خطوات ملموسة
في نوفمبر 2024، أصدر البنك المركزي الجزائري قرارًا يقضي باستئناف العمليات التجارية مع إسبانيا، بعد أكثر من 18 شهرًا من التجميد. تبعه إعلان رسمي بعودة السفير الجزائري إلى مدريد، ما اعتُبر مؤشراً قوياً على طي صفحة الخلاف.
وفي فبراير 2024، تأجلت زيارة كانت مقررة لوزير الخارجية الإسباني إلى الجزائر، قبل 12 ساعة فقط من موعدها، بطلب من الجزائر بسبب “ازدحام الأجندة”، ما عُد حينها علامة على وجود ملفات لم تُحسم بعد، لكنها كانت أيضًا دليلاً على تواصل مستمر وإن كان حذرًا.
هل الصحراء الغربية ما زالت عائقًا؟
رغم مظاهر التهدئة، يبقى ملف الصحراء الغربية نقطة توتر تحت الرماد، فبينما لم تعلن الجزائر رسميًا تغيير موقفها من رفض دعم مدريد لمقترح الحكم الذاتي المغربي، تبدو القيادة الجزائرية حريصة على فصل الملفات والرهان على البرغماتية السياسية لتأمين مصالحها العليا.
فالمواقف السياسية لا تعني دائمًا القطيعة، وهو ما أثبتته التجربة الجزائرية مع دول أخرى. اليوم، قد يكون المسار مع إسبانيا مزيجًا من التريث والتقارب المشروط، وسط تطورات إقليمية معقدة.
وبين المصافحة الدبلوماسية في إشبيلية وعودة التجارة في نوفمبر، تسير العلاقات الجزائرية الإسبانية نحو تطبيع تدريجي لا يخلو من الحذر، فالسياسة تُبنى على المصالح، والمصالح بين الجزائر ومدريد أقوى من الخلافات. ومع ذلك، تبقى الأيام المقبلة هي التي ستحدد إن كانت هذه العودة مؤقتة أم بداية شراكة استراتيجية متجددة على ضفتي المتوسط.