في إحدى زوايا مدرسة تحوّلت إلى مأوى للنازحين في مخيم البريج وسط قطاع غزة، تجلس الطفلة صبا أبو عابدة، ذات الأحد عشر عامًا، على فراش واهٍ، لا يشبه أي شيء من دفء طفولتها السابقة. لا ألعاب حولها، ولا ضحكات أطفال، فقط أم تمسك بيدها وتحاول أن تخفي بكاءها بابتسامة مكسورة، بينما تُعيد تثبيت الغطاء على ساقيّ لم تعودا موجودتين.
كرسي بلا عجلات
صبا ليست مجرد طفلة جريحة، بل قصة كاملة عن القسوة التي يعيشها الفلسطيني في غزة، حين تصبح المدرسة التي احتمى بها من الموت، بوابة له إليه. فبعد أن فرّت مع عائلتها من أحياء اشتد فيها القصف، لجأت إلى المدرسة بحثًا عن مأوى مؤقت، لكن صاروخًا إسرائيليًا استهدف بوابة المدرسة فجأة، فكان الانفجار أقوى من قدرة أجساد الأطفال على الاحتمال. قُطعت ساقا صبا في لحظة واحدة، لا ذنب لها فيها سوى أنها فلسطينية تبحث عن أمان في رقعة ضيقة محاصرة من كل الجهات.
اليوم، لا تستطيع صبا المشي، ولا اللعب، ولا حتى التحرك داخل صفّ المدرسة التي صارت مستشفى مؤقتًا ومأوى لآلاف المهجّرين. كل ما تملكه هو كرسي بلا عجلات وابتسامة باهتة، تقول لمن يراها إنها تحاول التكيّف، رغم أن كل شيء حولها يقول العكس.
عزل قاتل
الأطباء قالوا إن تركيب ساقين صناعيتين ممكن، لكن الأمر يتطلب سفرًا عاجلًا إلى خارج غزة. والسفر اليوم حلم بعيد، فقد أُغلقت المعابر، وتوقفت المساعدات، وتحوّل حق العلاج إلى معركة أخرى. لا دواء، ولا تحويلات طبية، ولا جهة رسمية قادرة على إخراجها من هذا العزل القاتل الذي فرضه الحصار.
والدتها، التي تحوّلت إلى ممرضة بديلة في غياب الرعاية الصحية، تنظف جراح صبا يوميًا، وتعيد لَفّ الضمادات القديمة، وتحاول أن تُطمئن ابنتها بأنها ستعود لتقف يومًا على قدميها. لكن الوقت يمضي، والجراح تكبر، والمعاناة تتجذر.
أطفال يدفعون الثمن
صبا، التي كانت تحلم بأن تصبح معلمة رياضيات، لا تستطيع الآن حتى الوصول إلى مقعد الدراسة. مدرستها الأصلية دُمّرت، وأحلامها مؤجلة، تنتظر قرارًا دوليًا، أو فتح معبر، أو يدًا تمتد لها من خارج الجدران المحاصرة.
قصتها ليست استثناءً، بل مرآة لواقع آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين لا يحملون سلاحًا، ولا يفهمون السياسة، لكنهم يدفعون ثمنها بجسدهم ومستقبلهم. صبا ليست مجرد رقم في تقارير الإصابة، بل طفلة تُخبرنا جميعًا أن الحرب لا تقتل فقط، بل تُبتر الأحلام، وتسرق الطفولة، وتترك قلبًا صغيرًا يشتاق لخطوة على الأرض، وخطوة نحو الحياة.