تبدو المفاوضات الجارية لوقف إطلاق النار في غزة، والتي تجري حالياً في الدوحة، وكأنها تسير في دائرة مفرغة، بفعل تداخل العوامل السياسية والأمنية، وتضارب المصالح الإقليمية والدولية، ما يُضعف فرص الوصول إلى هدنة شاملة ومستقرة. ورغم التصريحات المتفائلة أحياناً من بعض الأطراف، إلا أن الحقائق على الأرض تكشف أن الطريق إلى التهدئة لا يزال مليئاً بالعقبات، وفي مقدمتها الإصرار الإسرائيلي على إعادة صياغة الواقع الجغرافي والأمني للقطاع بما يتجاوز أهداف العملية العسكرية المعلنة.
إسرائيل تتمسك بالسيطرة على محاور استراتيجية
أحد أبرز الأسباب التي تعرقل الوصول إلى اتفاق، يتمثل في تمسك إسرائيل بالسيطرة على محاور استراتيجية قريبة من الحدود مع مصر، لا سيما ما يُعرف بـ”محور فيلادلفيا” و”محور موراغ”. هذا التوجه الإسرائيلي لا يُقرأ فقط في سياق أمني، بل يبدو متصلاً بخطط أوسع لإعادة تشكيل الخارطة الديموغرافية للقطاع، وسط مخاوف فلسطينية ومصرية من دفع الأمور باتجاه تهجير قسري للفلسطينيين نحو رفح، تمهيداً لإخراجهم من غزة، وهو ما ترفضه القاهرة بشكل قاطع وتعتبره تهديداً مباشراً لأمنها القومي.
الموقف المصري الحاسم في هذا الملف يعكس إدراكاً عميقاً لحساسية الوضع الحدودي، ورفضاً واضحاً لأي محاولة لفرض أمر واقع جديد، سواء عبر إعادة الاحتلال إلى محاور انسحبت منها إسرائيل قبل سنوات، أو عبر “تنظيم” وجود الفلسطينيين في جيوب جغرافية ضيقة تحت ذريعة الأمن. وقد عبّر عن هذا الرفض مصدر مصري مطّلع، شدد على أن الانسحاب من محور فيلادلفيا أو أي محور مشابه هو شرط لا غنى عنه، وأن التعنت الإسرائيلي في هذا الجانب قد يؤدي إلى فشل المفاوضات كلياً.
إضعاف حركة حماس
الجانب الآخر من المأزق يتمثل في الموقف الأميركي، الذي وإن أبدى حرصاً علنياً على الوصول إلى اتفاق، إلا أن ضغوطه على الحكومة الإسرائيلية لا تزال محدودة التأثير. فبينما يتحدث المسؤولون الأميركيون عن فرص لوقف إطلاق نار مؤقت يمكن البناء عليه، تتسرب من الإعلام الإسرائيلي مؤشرات على خلافات داخل حكومة نتنياهو نفسها، بين من يرى أن التمسك بالمحاور الحدودية سيؤخر الصفقة، ومن يعتبرها مسألة أمن قومي لا يمكن التنازل عنها.
وفي خضم هذا التجاذب، يبرز انعدام الثقة بين الأطراف. إذ تُتهم إسرائيل بالسعي إلى تعطيل عمل المؤسسات الدولية، ومنع دخول المساعدات، ما يزيد من حدة الكارثة الإنسانية في غزة ويقوّض أي محاولة لتحقيق تهدئة حقيقية. هذا ما أشار إليه محللون فلسطينيون يرون أن الإصرار الإسرائيلي على البقاء في جنوب وشرق القطاع لا يمكن تفسيره إلا في سياق نوايا مبيتة لإضعاف حركة حماس، وإجبار السكان على النزوح، وربما أكثر من ذلك.
كما تُعد مسألة ترتيبات ما بعد وقف إطلاق النار عائقاً في حد ذاته. فليست المشكلة فقط في وقف النار، بل في شكل الترتيبات اللاحقة: من ينسحب، وأين، ومن يراقب، وكيف تُدار المساعدات، ومن يضمن عدم عودة الحرب بعد أيام؟ هذه الأسئلة تفتح الباب لتقديرات أكثر تشاؤماً، خاصة في ظل الترويج الإسرائيلي لبناء منطقة “آمنة” في رفح لاستيعاب مئات الآلاف من النازحين، مع تأكيدات بأن هذه المنطقة ستكون “خالية من حماس”، ما يشير إلى مشروع فصل ديموغرافي وأمني على نحو خطير.
مفاوضات بشروط المنتصر
وعلى الرغم من الدور المتقدم الذي تلعبه مصر وقطر في الوساطة، فإن الضمانات الدولية لا تزال غائبة، ولا يبدو أن الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة بصدد اتخاذ خطوات فاعلة لتثبيت اتفاق مستدام. صحيح أن هناك محاولات للتنسيق من خلال زيارات رسمية ومباحثات دبلوماسية، لكن التصريحات لا تزال أقرب إلى التمنيات منها إلى الضغط الفعلي.
في المحصلة، يبدو أن إسرائيل تحاول خوض مفاوضات بشروط المنتصر، دون أن تُظهر استعداداً حقيقياً لتقديم تنازلات. وفي المقابل، فإن حماس والسلطة الفلسطينية تعيشان تحت ضغط شعبي هائل بفعل الكارثة الإنسانية، وتدركان أن أي اتفاق لا يضمن وقفاً كاملاً للعدوان وانسحاباً كاملاً من غزة سيكون بمثابة “هدنة على حساب الكرامة”.
كل هذه العوامل مجتمعة تجعل من الهدنة هدفاً صعب المنال في الوقت الراهن، ما لم يحدث تحوّل جوهري في الموقف الأميركي يفرض على إسرائيل الالتزام بخطوط واضحة تتضمن الانسحاب، ووقف التهجير، وتمكين المنظمات الإنسانية من العمل بحرية، وإعادة بناء الثقة في أي مسار تفاوضي جديد.