لا تزال تداعيات انتخابات الرئاسة الجزائرية التي جرت في سبتمبر 2024 ترخي بظلالها الثقيلة على المشهد السياسي والقانوني في البلاد، بعد أن تفجرت قضية فساد مالي كبيرة تتعلق بشراء التوقيعات لدعم الترشحات، لتتحول إلى واحدة من أكبر قضايا الفساد الانتخابي في تاريخ الجزائر الحديث.
10 سنوات سجناً لوزير وسيدة أعمال وناشط سياسي
طلبت النيابة العامة في الجزائر توقيع عقوبات مشددة تصل إلى 10 سنوات حبساً نافذاً ضد ثلاثة من أبرز الشخصيات السياسية والاقتصادية التي شاركت في سباق الترشح، وهم الوزير السابق بلقاسم ساحلي، وسيدة الأعمال البارزة سعيدة نغزة، والناشط السياسي عبد الحكيم حمادي، وذلك بعد إدانتهم بتهم تتعلق برشوة منتخبين وتقديم مزايا نقدية غير مشروعة.
القضية لم تتوقف عند المتهمين الثلاثة، بل توسعت لتشمل 77 شخصاً آخرين، بينهم أبناء نغزة وأعضاء في منظمات اقتصادية محلية، ومنتخبون محليون في المجالس البلدية والولائية، وُجهت إليهم تهم تلقي أموال مقابل التوقيع لمرشحين، في انتهاك مباشر لقانون الانتخابات.
تهم متعددة.. وملاحقات واسعة
تضم لائحة الاتهام عدة تهم ثقيلة من بينها: منح مزايا غير مستحقة، تقديم رشاوى، التأثير على إرادة المنتخبين، النصب، وسوء استغلال الوظيفة العامة، وكلها تهم تتعلق بالتلاعب في العملية الانتخابية ومحاولة تزوير إرادة الناخبين من خلال المال السياسي.
في أول تعليق علني على الحكم الابتدائي، ظهرت سعيدة نغزة في فيديو مصور أكدت فيه براءتها، ووصفت الحكم بأنه “صادم” و”غير مبني على أدلة”، مشددة على أنها لم تقدم أي أموال لأي شخص مقابل الحصول على التوقيعات، وأن المساندين لها “فعلوا ذلك بدافع القناعة وليس المصلحة”.
شهادات الموقوفين تربك الرواية
في المقابل، أشارت النيابة إلى أن أكثر من 50 منتخباً محلياً اعترفوا صراحة بتلقي مبالغ تراوحت بين 130 و180 دولاراً لتزكية المترشحين، كما تم الاستماع إلى وسطاء تولوا عملية نقل الأموال والتنسيق بين الفرق الانتخابية وهؤلاء المنتخبين.
بحسب وسائل الإعلام الحكومية، تعكس هذه المحاكمة “التزام الدولة بمكافحة الفساد الانتخابي”، خاصة بعد أن طالت شخصيات بارزة، في وقت يتزايد فيه الضغط الشعبي والدولي لضمان نزاهة العمليات الانتخابية في الجزائر بعد سنوات من الشكوك والتشكيك.
شروط قاسية للترشح ألهبت السوق السوداء
القانون الانتخابي الجزائري يشترط حصول كل مرشح على 600 توقيع من منتخبين محليين من 29 ولاية على الأقل، وهو ما خلق -وفق مراقبين- سوقاً موازية غير شرعية لـ”بيع” التزكيات في ظل غياب الرقابة وغياب الشفافية في كيفية جمع التوقيعات.
المحكمة الدستورية كانت قد رفضت ملفات ترشح نغزة وساحلي وحمادي، بدعوى عدم استيفاء الشروط، الأمر الذي أثار الشبهات، ودفع السلطات لفتح تحقيق موسّع استناداً إلى تقارير السلطة الوطنية للانتخابات، تبين من خلالها وجود خروقات جسيمة.
حرية مشروطة رغم الإدانة
ورغم صدور الحكم الابتدائي في مايو الماضي، فإن المتهمين الثلاثة لا يزالون طلقاء، نظراً لأن القوانين الجزائرية تتيح الإفراج المؤقت في قضايا الجنح حتى صدور الحكم النهائي بعد الاستئناف والنقض، في حين لا يتم ذلك في القضايا الجنائية.
الأبناء لم يسلموا من الملاحقة، فقد صدر حكم بالسجن 8 سنوات ضد عمران نغزة المقيم بالخارج، بينما أدين شقيقه بشير داخل الجزائر بنفس الحكم. وقد عبّرا في منشورات عبر “فيسبوك” عن رفضهم للأحكام، متهمين جهات مجهولة بـ”تصفية حسابات سياسية”.
ساحلي وحمادي يلتزمان الصمت
بعكس نغزة، لم يصدر الوزير السابق بلقاسم ساحلي أو الناشط عبد الحكيم حمادي أي تصريح رسمي بعد صدور الحكم، وسط توقعات بأن يعلنا موقفاً أكثر وضوحاً بعد جلسة النطق بالحكم النهائي، المقررة خلال أسبوع.
طالبت نغزة في تصريحاتها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون بـ”إبطال الأحكام” الصادرة ضد من وقّعوا لها، و”إعادة الاعتبار للضحايا”، كما اعتبرت أن ترشحها رُفض لأسباب غير مفهومة رغم جمعها أكثر من 900 توقيع.
انقسام في الشارع الجزائري
الشارع الجزائري منقسم بين من يرى في هذه المحاكمة خطوة نحو تنظيف الساحة السياسية من المال الفاسد، ومن يعتبرها تصفية لحسابات قديمة داخل النخبة الاقتصادية والسياسية، خصوصاً أن بعض المتهمين ينتمون إلى تكتلات مؤثرة.
من المنتظر أن تتواصل القضية لأسابيع وربما شهور أخرى، في حال تقدم المتهمون بطعن بالنقض، ما يفتح الباب أمام جولات قضائية جديدة، ستكون تحت أنظار الرأي العام الذي يترقّب كيف ستُحسم واحدة من أكثر قضايا الفساد الانتخابي إثارة في تاريخ الجزائر المعاصر.