«لبنان قد يواجه تهديداً وجودياً».. عبارة أطلقها المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توماس براك، فكانت كافية لإشعال جدل سياسي واسع في بيروت ودمشق وواشنطن، وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي. فهل كانت زلة لسان؟ أم إشارة إلى تحول استراتيجي في النظرة الأميركية للمنطقة؟
تصريح مفاجئ يربك المشهد اللبناني
في حوار أجرته معه صحيفة “ذا ناشيونال”، صرّح براك بأن “لبنان قد يواجه تهديداً وجودياً، وقد يعود إلى بلاد الشام مجدداً مع عودة سوريا إلى الساحة الدولية”.
هذا الكلام، الذي بدا للكثيرين كتحذير من ضياع الهوية أو الاستقلال اللبناني، فُسِّر في أوساط محلية وإقليمية على أنه تلميح خطير لتغيّر محتمل في موازين القوى أو إعادة ترسيم الأدوار السياسية في المنطقة.
توضيح عاجل.. وعبارات مطمئنة
لم تمر ساعات حتى نشر براك توضيحاً على منصة إكس قال فيه: “أشادت تعليقاتي أمس بالخطوات الكبيرة التي قطعتها سوريا، لا بالتهديد الذي تشكله على لبنان”.
وأضاف: “قادة سوريا لا يريدون سوى التعايش والازدهار المتبادل مع لبنان، والولايات المتحدة ملتزمة بدعم هذه العلاقة بين جارين متساويين وذوي سيادة”.
هذا التوضيح جاء لاحتواء موجة الانتقادات التي رأت في تصريحاته مساساً بسيادة لبنان، أو تشجيعاً ضمنياً على عودة النفوذ السوري المباشر إلى الساحة اللبنانية.
ملف “سلاح حزب الله” في قلب العاصفة
بعيداً عن الجدل حول هوية لبنان ومستقبله، سلط براك الضوء أيضاً على ملف شائك حين دعا “السلطات اللبنانية إلى معالجة ملف سلاح حزب الله بسرعة”.
وهذه الدعوة، وإن لم تكن جديدة، فإن توقيتها في ظل الحراك الإقليمي المتسارع وعودة سوريا للواجهة الدبلوماسية، يجعلها أكثر حساسية وتأثيراً، خاصة أن حزب الله يشكل اليوم لاعباً أساسياً في المعادلة السياسية والعسكرية اللبنانية.
عودة بلاد الشام؟ بين الجغرافيا والتاريخ
حديث براك عن “عودة لبنان إلى بلاد الشام” أعاد للأذهان الحقبة التي كان يُنظر فيها إلى لبنان وسوريا كجزء من وحدة جغرافية وسياسية واحدة. ورغم أن الاستقلال اللبناني عام 1943 كرّس فصل الكيانين، إلا أن النفوذ السوري ظل حاضراً حتى انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005.
اليوم، وفي ظل متغيرات إقليمية كبرى، تطرح تصريحات المبعوث الأميركي سؤالاً شائكاً: هل هناك توجه أميركي لإعادة صياغة علاقة لبنان بسوريا؟ أم أن الأمر لا يتجاوز إشادة دبلوماسية مغلّفة؟
ردود أفعال لبنانية.. قلق وحذر
في بيروت، التزمت معظم القوى السياسية الصمت الرسمي، لكن مصادر سياسية رفيعة اعتبرت في تصريحات صحفية أن “أي محاولة لإعادة ربط لبنان بسوريا تحت أي مسمى، مرفوضة شكلاً ومضموناً”.
بينما عبّر نشطاء عبر مواقع التواصل عن مخاوفهم من “ضغوط خفية” قد تمارس على لبنان لدفعه نحو خيارات لا تتماشى مع استقلاله ومصالحه الاقتصادية والسياسية.
واشنطن بين ضبط التوازنات وتوجيه الرسائل
بقراءة أوسع، يبدو أن واشنطن تسعى إلى رسم توازن جديد في الشرق الأوسط، بحيث تفتح الباب أمام “تطبيع محسوب” مع دمشق، بشرط أن يُستثمر ذلك في تقليص نفوذ إيران وحزب الله، لا سيما في لبنان.
ولعل تصريح براك كان جزءاً من محاولة اختبار ردود الأفعال، أو إرسال إشارات مزدوجة إلى الأطراف المعنية، بمن فيهم الحلفاء التقليديون لأميركا في المنطقة.
رسائل بلا غطاء رسمي؟
في النهاية، تبقى تصريحات براك محاطة بالغموض والتأويل، رغم التوضيح الذي أعقبها. غير أن اللافت أنها أعادت تسليط الضوء على تعقيدات العلاقة السورية-اللبنانية، وعلى هشاشة الوضع السياسي اللبناني في ظل غياب رئيس للجمهورية، وتراجع الاقتصاد، وتفاقم الأزمات المعيشية.
ومهما كانت خلفيات التصريح، فإن الربط بين لبنان و”بلاد الشام” في سياق سياسي حديث، يعكس مخاوف قديمة متجددة، ويطرح تساؤلاً لا يمكن تجاهله: هل يتغير موقع لبنان الجيوسياسي مجدداً؟.