تدخل مفاوضات الهدنة في قطاع غزة يومها السادس في العاصمة القطرية الدوحة، وسط تباين صارخ بين المواقف المعلنة من الطرفين الأساسيين، إسرائيل و«حماس»، وبين التفاؤل الأميركي والإسرائيلي بإنجاز قريب. وبينما تتحدث واشنطن وتل أبيب عن «انفراجة» خلال أيام، تتهم «حماس» إسرائيل بوضع العراقيل، وتؤكد تمسكها بموقف تفاوضي «إيجابي ومسؤول»، يعكس حرصها على الوصول إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار.
تعقيدات المشهد التفاوضي
تدور المفاوضات الحالية في ظل تعتيم كبير على التفاصيل، إلا أن المواقف والتصريحات الصادرة تكشف خريطة معقدة من المطالب والشروط. فإسرائيل، وعلى لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو، تشترط نزع سلاح «حماس» وحرمانها من أي قدرة عسكرية أو سلطوية على قطاع غزة، ملوحاً بالعودة للحرب في حال عدم تحقيق هذه الشروط، سواء بالمفاوضات أو بالقوة.
إلى جانب ذلك، أضاف وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر شرطاً جديداً يتمثل في نفي قادة «حماس» خارج الأراضي الفلسطينية كجزء من الاتفاق المستقبلي. هذا التصعيد الإسرائيلي يتعارض بشكل صارخ مع مطالب «حماس» التي أعلنت سابقاً استعدادها للتوصل إلى صفقة شاملة تتضمن تبادلاً كاملاً للأسرى، ووقفاً دائماً للعدوان، وانسحاباً شاملاً لقوات الاحتلال، وضمانات لتدفق المساعدات الإنسانية إلى القطاع.
ضغوط أميركية وعامل إيران
ما يجعل المشهد أكثر تعقيداً هو التداخل الإقليمي والدولي، خاصة في ظل تصاعد التوتر بين واشنطن وطهران. ويبدو أن ملف غزة بات مرتبطاً، بشكل غير مباشر، بتطورات الملف الإيراني. تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بشأن احتمال توجيه ضربة ثانية لإيران، بعد الحرب الجوية الأخيرة في يونيو، توحي بأن تهدئة جبهة غزة أصبحت ضرورة استراتيجية قبل أي مواجهة محتملة جديدة مع طهران.
ويرى محللون أن زيارة نتنياهو الأخيرة إلى واشنطن لم تقتصر فقط على ملف غزة، بل ناقشت أيضاً التنسيق حول إيران، وسط إصرار واضح من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب على إنجاز صفقة الهدنة، حمايةً لمصالحها الإقليمية، ومنعاً لأي تصعيد قد يحرج الإدارة الأميركية داخلياً.
مؤشرات على انفراجة
على الرغم من العراقيل، تؤكد التقديرات السياسية أن المفاوضات تقترب من خواتيمها. الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية، يرى أن الانفراجة باتت قريبة تحت ضغط أميركي مباشر، وأن نتنياهو قد يقبل باتفاق يشمل انسحابات إسرائيلية تدريجية – خصوصاً من ممر موارغ القريب من الحدود مع مصر – مقابل تعهدات أمنية ومرونة «حماس» في إدارة قطاع غزة مستقبلاً دون الاحتفاظ بقدرات عسكرية.
كما يرى المحلل السياسي الفلسطيني، الدكتور سهيل دياب، أن حركة «حماس» قدمت الحد الأقصى الممكن في مسار التفاوض، وأن المراوغة الإسرائيلية نابعة من حسابات نتنياهو الشخصية والأزمات السياسية الداخلية. ويعتقد دياب أن المشهد مرشح لاحتمالين لا ثالث لهما: إما انفراجة وشيكة تحفظ ماء وجه نتنياهو بعد زيارته لواشنطن، أو تعثر ينفجر في وجهه سياسيًّا وعسكريًّا.
السياق الإنساني والضغوط الإقليمية
في ظل هذه التحركات السياسية والعسكرية، تتفاقم الأوضاع الإنسانية داخل قطاع غزة، خاصة بعد أشهر طويلة من الحرب والحصار. الصور القادمة من خان يونس والمخيمات المؤقتة للنازحين تضع العالم أمام مشهد مأساوي، وهو ما دفع مصر لتكثيف اتصالاتها الإقليمية والدولية من أجل دفع العملية التفاوضية قُدماً.
وأكد وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، في اتصال هاتفي مع نظيره الألماني، ضرورة ضمان تدفق المساعدات ووقف إراقة الدماء، في تذكير بدور القاهرة المحوري كوسيط دائم في النزاعات الفلسطينية الإسرائيلية.
احتمالات ما بعد الاتفاق
إذا تحقق الاتفاق، فمن المرجّح أن يتم تنفيذه على مراحل، تبدأ بتبادل جزئي للأسرى، وتنسحب إسرائيل تدريجياً من بعض مناطق القطاع، مقابل التزام «حماس» بتهدئة مستدامة، دون المساس بهيكل سلطتها المدنية في غزة. كما سيضمن الاتفاق، إذا تم، دخول مساعدات إنسانية بكميات أكبر، وربما إشرافاً دولياً مؤقتاً على بعض الملفات الإنسانية.
لكن إذا فشل الاتفاق، فسيكون المشهد مفتوحاً على احتمالات التصعيد، سواء في غزة أو في الساحة الإيرانية، وهو ما لا تريده واشنطن حالياً، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يسعى ترمب خلالها لتحقيق إنجاز ملموس في السياسة الخارجية.
المفاوضات الجارية في الدوحة لا تجري بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي، وهي محكومة بضغوط متبادلة، وحسابات معقدة لكل طرف. لكن رغم العراقيل، فإن المؤشرات الحالية تميل إلى حدوث انفراجة قريبة، مدفوعة برغبة أميركية ملحة في تحقيق تهدئة قبل أي مواجهة جديدة مع إيران، ورغبة إسرائيلية – براغماتية – في تجنب الغرق أكثر في مستنقع غزة.