فيما تُرك الغزيون ليواجهوا مصيرهم وحدهم بين الركام والموت البطيء، تواصل قيادة حماس رفع شعارات الصمود و”التمسك بالأرض”، وكأنها غير معنية بحجم الخراب الشامل الذي اجتاح قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر. وتُصر الحركة على رفض مجرد التفكير في خيار الهجرة، معتبرة إياه خيانة للقضية الوطنية ومسًّا بالثوابت، متجاهلين أن الوطن الذي يتحدثون عنه لا يشترط الحد الأدنى من مقومات الحياة!
قادة حماس لا يزالون يخاطبون سكان غزة بلغة العاطفة، يتحدثون عن التضحية كأنهم على منصة خطابية في العام 2006 وليسوا أمام مشهد جغرافي دُمرت معالمه وشعب أنهكته المجازر وبنية اجتماعية واقتصادية تحوّلت إلى سراب، في المقابل، الغزيون أنفسهم باتوا يرون المشهد بعيون مختلفة، فالأغلبية الساحقة فقدت كل شيء: البيت، الأسرة، الأمن، وحتى الأمل، ولم يعد الحديث عن “أرض الآباء والأجداد” مقنعًا أمام مشهد طفل يبحث عن رغيف خبز بين الحجارة، أو شباب يتقاتلون من أجل كيس طحين، أو امرأة تحتضن جثة ابنها تحت الضوء الباهت لطائرة استطلاع تحلّق فوقها.
الهجرة من أهوال الحرب والدمار فكرة تتعامل معها حماس ككفر سياسي، باتت لدى كثيرين الخيار الوحيد الممكن ليمنح أطفاله فرصة للنجاة، لهذا فمن العبث تصوير هذا الخيار كخيانة أو عزله عن سياقه الكارثي، بل الحقيقة التي يحاول الحمساويون نكرانها، أن كثيرًا من الغزيين لا يمانعون الخروج من هذا الجحيم، بعد أن تحول القطاع إلى فضاء غير قابل للعيش، وأن ما تدعوه حماس بالصمود، يراه سكان غزة موتًا بطيئًا على مرأى من العالم الذي تعب من صور الخراب ولم يعد يصغي حتى للآهات.
النتائج بعد حرب السابع من أكتوبر يجب أن تقرأ بعين سياسية صريحة لا تغشاها الأوهام، ربما فقدت إسرائيل الكثير من سمعتها الدولية كما حدث معها في حرب لبنان 1982 ومجازر صبرا وشاتيلا لكنها في الواقع لم تُهزم بل ربحت أكثر مما كانت تحلم به: عزلة حماس دوليًا، تفكيك الخطاب المقاوم في الشارع العربي، تراجع الحضور الإيراني ميدانيًا في غزة، وفتح الطريق أمام أخطر السيناريوهات وهنا نتحدث عن التهجير الجماعي .
وأبعد من ذلك، حيدت تل أبيب حزب الله ونجحت في جرّه إلى سياسة الاستنزاف دون معركة كبرى، وخلقت تآكلًا في التفاهمات الإقليمية لصالح أجندة أمنية توسعية لم تعد تُخفي نواياها، وأمام هذا كله ما تزال قيادة حماس في قطر ترفع شعارات “التمسك بالمبادئ” وكأنها لا ترى الخرائط الجديدة التي تُرسم بالدم، ولا تسمع أصوات الغزيين حين يتهامسون: “ارفعوا أيديكم عنّا… بدنا نعيش!”
إذا كانت القضية الفلسطينية قد تحولت في أذهان البعض إلى مجرد رصيد شعارات أكثر منها مشروع تحرر حقيقي، فإن من أولى ضرورات المراجعة أن تعيد الفصائل وعلى رأسها حماس ـ قراءة الواقع بمعايير واقعية تراعي ما بلغه القطاع من مأساة إنسانية. فقد اتُّخذ خيار المواجهة العسكرية في السابع من أكتوبر بشكل منفرد، دون توافق وطني جامع، وتحمّل سكان غزة وحدهم كلفته الباهظة من دمار وموت وتشريد دون أن تلوح أي نتائج إيجابية في الأفق.
بل مع تصاعد المخاطر الوجودية عليهم لم يعد ممكنًا تجاهل حجم المعاناة اليومية التي يعيشها الغزيون، ولا بد من التعامل مع احتياجاتهم وآمالهم بجدية بعيدًا عن منطق الإنكار أو الإدانة الأخلاقية، ما نحتاجه ليس خيار الرحيل بل خيار النجاة، بما يراعي ثوابت الشعب الفلسطيني وحقه في العودة، دون أن يُجبر الإنسان على أن يدفع حياته ثمنًا لمعادلات سياسية مغلقة الأفق.
حين تتحدث حماس عن “الواجب الوطني”، فليكن من باب أولى أن تبدأ بالاعتراف أن ما حدث كان خطأ استراتيجيًا، وأن حسابات ما قبل الحرب لم تكن واقعية، وأن النصر لم يُولد من رحم هذه المجازر، فالواقع لا يُدار بالهتاف بل بالاعتراف والمحاسبة والتعقل.
كل هذه الحقائق ليست موجهة لتبني سردية الاحتلال ولا محاولة لتبرئته من جرائمه، بل عرض لواقع موجع قد يكلف من يتجرأ على قوله تهمة التخوين، لكن ما لا يمكن إنكاره أن ما بعد السابع من أكتوبر لم يكن مرحلة تحرير، بل مرحلة خسارة، وربما كانت الخسارة الأكبر تلك الهوة التي اتسعت بين خطاب المقاومة وواقع الإنسان الفلسطيني