وسط صمتٍ دوليٍّ يكاد يُفهم على أنه تواطؤ، تتواصل الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، وهذه المرة باستهداف مباشر لشارع مكتظ بالمارة في مفترق الغفري وسط المدينة. الهجوم، الذي نُفذ بطائرة مسيّرة، لم يفرّق بين طفل وامرأة أو مدني ومسلّح، بل حوّل نقطة حيوية مزدحمة إلى مسرحٍ للدماء والدمار، في مشهد تكرّر كثيرًا منذ بدء العدوان في أكتوبر 2023، لكنه لا يزال يفتك بضمير العالم دون أن يهزّ مواقف الحكومات الكبرى.
ضرب بيئة المقاومة
إن استهداف المناطق المدنية المأهولة في وضح النهار، كما حدث في مفترق الغفري، ليس ناتجًا عن خطأ استخباراتي أو ضربة عرضية، بل يبدو أقرب إلى سياسة ممنهجة تستخدم القصف العشوائي كأداة للضغط الجماعي وكسر الإرادة الشعبية. من الصعب تصديق أن جيشًا يعدّ من بين الأكثر تطورًا في العالم من حيث التكنولوجيا والدقة، لا يستطيع التمييز بين موقع عسكري ومكان مدني مكتظ، خاصة وأنه يمتلك أجهزة مراقبة متقدمة وطائرات تجسس تحلّق فوق القطاع بشكل مستمر.
السؤال الأهم الذي يطرح نفسه بقوة: لماذا لا تركز إسرائيل على استهداف مواقع “حماس” الفعلية، إن كانت بالفعل تسعى فقط لتحييد التهديد العسكري؟ الإجابة قد تكمن في طبيعة الاستراتيجية التي تتبعها تل أبيب، والتي تسعى من خلالها إلى ضرب بيئة المقاومة وليس فقط البنية المسلحة.
العقاب الجماعي
بمعنى آخر، هي تريد كسر الحاضنة الشعبية للمقاومة من خلال إيصال رسالة مفادها أن الثمن الذي سيدفعه المدنيون سيكون باهظًا إذا استمرت “حماس” في نشاطها. لكن هذا التوجه، من منظور القانون الدولي، يدخل مباشرة في إطار العقاب الجماعي وجرائم الحرب، وهو ما تدينه بشدة منظمات حقوق الإنسان، وفي مقدمتها منظمة العفو الدولية.
وفي مقابل هذه الوحشية، يبرز الصمت الغريب، وربما المخزي، للمجتمع الدولي. بيانات الشجب الخجولة لم تعد كافية، إذ تحوّلت إلى روتين دبلوماسي لا يحمل معه أي أثر عملي. الدول الكبرى، التي تدّعي الدفاع عن القيم الإنسانية، تكتفي بإبداء “القلق”، بينما تُزوَّد إسرائيل بالسلاح والغطاء السياسي لمواصلة عملياتها دون خشية من الملاحقة أو المساءلة.
ازدواجية المعايير
هذا الصمت لا يعكس فقط خللاً في توازن القوى داخل النظام الدولي، بل يكشف أيضًا عن ازدواجية المعايير، حيث يتم تصنيف الجرائم بناءً على هوية مرتكبها لا على فداحتها. فلو كانت دولة أخرى غير إسرائيل قد ارتكبت المجازر نفسها، لكانت العقوبات الدولية قد انهالت، وربما كانت هناك تحركات عسكرية تحت شعار “حماية المدنيين”.
إن استمرار استهداف المدنيين في غزة، على هذا النحو الوحشي، لا يمكن فصله عن إدراك إسرائيل بأن العالم، أو على الأقل من يملكون أدوات الضغط، لن يتحركوا. والنتيجة هي أن أطفال غزة ونسائها يدفعون ثمن هذه الموازين غير العادلة، في حين تبقى شاشات التلفاز العالمية شاهدة، دون أن تكون قادرة على تحويل المأساة إلى فعل.