كشف فيليب جوردون، المستشار السابق لنائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس، عن كواليس مأزق الرئيس دونالد ترامب في ولايته الثانية بشأن التصعيد العسكري مع إيران، متهماً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه “وضع ترامب في الزاوية” عبر فرض واقع عسكري لا يمكن تجاوزه.
جوردون، المعروف بميله للمدرسة الأوروبية في السياسة الخارجية، تحدث بوضوح عن انهيار الدبلوماسية أمام ضغوط الحليف الإسرائيلي، مشيراً إلى أن ترامب كان يسعى بشدة لإبرام صفقة نووية جديدة مع طهران، لكنه وجد نفسه مجبراً على تبني خيار القوة بعد أن تجاوزته إسرائيل ميدانياً.
الدبلوماسية التي لم تكتمل
بحسب جوردون، لم يكن ترامب راغباً في شن حرب مفتوحة مع إيران. بل على العكس، كان يطمح إلى تحقيق اختراق دبلوماسي يعزز إرثه السياسي، ويمنحه ورقة ضغط إضافية في الداخل الأمريكي. وقد عبّر عن هذه الرغبة في أكثر من مناسبة، سواء بشكل علني أو عبر قنوات خلفية مع طهران.
إلا أن التصعيد الميداني الأخير، والذي بادرت إليه إسرائيل من دون تنسيق كافٍ مع واشنطن، أربك حسابات البيت الأبيض. نتنياهو، الذي بدا واثقاً من دعم الإدارة الأمريكية، أطلق شرارة التصعيد ضد إيران، مما وضع ترامب أمام خيارين أحلاهما مر: إما التراجع والمجازفة باتهامات الضعف، أو الانخراط في معركة لم يردها.
ضغط التحالف أم ابتزاز سياسي؟
تصريحات جوردون تسلط الضوء على التوتر الكامن في العلاقات الأمريكية–الإسرائيلية، خاصة حين تكون الأجندة الأمنية الإسرائيلية متقدمة على الحسابات الاستراتيجية للبيت الأبيض. فخلافاً للصورة التقليدية عن التناغم بين الطرفين، يبدو أن نتنياهو فرض واقعاً سياسياً وأمنياً على ترامب، جعله يتصرف دفاعاً عن قرار لم يتخذه بنفسه.
من هذا المنظور، لا يبدو ترامب كقائد مبادر، بل كزعيم مقيّد بالتحالفات، يُجبر على تبني خيارات لم تكن ضمن أولوياته، دفاعاً عن صورة القوة الأمريكية في المنطقة. إنه موقف يحرج الرئيس، خصوصاً مع القاعدة الشعبية التي طالما ساندته بوصفه مناهضاً للتدخلات العسكرية المكلفة في الشرق الأوسط.
مناورات إسرائيلية ومأزق أمريكي
استراتيجية نتنياهو لا تبدو بعيدة عن الحسابات الانتخابية الداخلية في إسرائيل، ولا عن الرغبة في حسم ملف إيران النووي بالقوة، طالما فشلت الأدوات الدبلوماسية في تحقيق تقدم ملموس. ومن خلال دفع الولايات المتحدة إلى الانخراط الكامل في المواجهة، يضمن رئيس الوزراء الإسرائيلي غطاءً دولياً لتحركاته، ويمنع عودة واشنطن إلى طاولة المفاوضات مع طهران.
لكن هذا التوجه يضعف موقف الولايات المتحدة كلاعب محايد أو وسيط محتمل، ويهدد بإدخالها في نزاع طويل الأمد لا تملك السيطرة الكاملة عليه. فإيران، على عكس ما كان يُظن، لم تنهر تحت وطأة الضربات، بل ردت بقوة في أكثر من جبهة، مما يعقد حسابات واشنطن أكثر فأكثر.
إلى أين يتجه هذا التحالف؟
السؤال الآن: هل يمكن لترمب أن يعيد الإمساك بزمام المبادرة، أم أن الكلمة العليا ستبقى لتل أبيب في تحديد مسار الحرب؟ يشير تحليل جوردون إلى أن استعادة التوازن تتطلب أكثر من بيانات دعم أو مؤتمرات صحفية، بل تحتاج إلى إعادة تعريف لأسس العلاقة بين الحليفين.
فالتحالف الأمريكي-الإسرائيلي، رغم متانته، يعيش اختباراً غير مسبوق، عنوانه: من يقود من؟ وإذا كانت واشنطن قد اعتادت أن تكون القاطرة، فإن ما يجري الآن يطرح احتمال تحولها إلى عربة خلفية، تُدفع نحو مواجهات لا تصنعها، لكنها تضطر إلى تحمل نتائجها.
واشنطن بين مطرقة الحلفاء وسندان المصالح
ما يكشفه فيليب جوردون يتجاوز مجرد نقد لسياسات إدارة ترامب؛ إنه تسليط للضوء على مأزق بنيوي في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، حيث تتداخل التزامات التحالفات التقليدية مع حسابات المصالح القومية. ففي لحظة حرجة، تحوّل التحالف مع إسرائيل من رافعة استراتيجية إلى عبء يُرغم الرئيس الأميركي على تبنّي قرارات لم تكن ضمن أولوياته، بل تتعارض مع ما وعد به ناخبيه.
هذا التناقض بين الرغبة في الانسحاب من صراعات الشرق الأوسط، وبين الانخراط القسري في حرب بسبب حسابات تل أبيب، يطرح أسئلة جوهرية حول من يمتلك حق القرار في السياسات العسكرية الأميركية في المنطقة. وهل باتت واشنطن رهينة لحلفائها؟
إن إعادة تقييم العلاقة مع إسرائيل لم تعد ترفاً أكاديمياً تتداوله مراكز الأبحاث، بل ضرورة سياسية ملحة في ضوء تداعيات قرارات كهذه على صورة الولايات المتحدة ومكانتها الاستراتيجية. وإذا كان التاريخ يعج بأمثلة على حلفاء ضاغطين، فإن ما يجري اليوم قد يصبح علامة فاصلة على بداية مراجعة أمريكية لأثمان هذا التحالف الطويل، الذي لم يعد “غير مشروط” كما كان في السابق.