شهدت العلاقات الجزائرية-الفرنسية في الأشهر الأخيرة تحولًا دراماتيكيًا من التوتر الحاد إلى محاولات جادة للتهدئة، حيث اضطرت فرنسا إلى التراجع عن مواقفها المتشددة، بعد أن وجدت نفسها في مواجهة دبلوماسية جزائرية متماسكة استطاعت فرض معادلة جديدة في التعاطي مع باريس. هذه المصالحة، التي جاءت بعد قطيعة غير مسبوقة، لم تكن مجرد مصافحة سياسية عابرة، بل كانت نتيجة فشل واضح في السياسة الفرنسية تجاه الجزائر، ونجاح إستراتيجي للجزائر في استغلال أوراق الضغط المتاحة لديها.
مسار القطيعة: تراكمات من الأخطاء الفرنسية
لم تكن الأزمة بين الجزائر وباريس وليدة اللحظة، بل جاءت كنتيجة طبيعية لمسار من التوترات التي تراكمت على مدار سنوات، حيث ظلت فرنسا تعتمد نهجًا متعاليًا في تعاملها مع مستعمرتها السابقة، متجاهلة التحولات الجيوسياسية التي عززت من ثقل الجزائر إقليميًا ودوليًا.
أحد أبرز أسباب التدهور كان تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2021، التي شكك فيها في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، وذهب إلى حد انتقاد النظام السياسي الجزائري، متهمًا إياه بـ”العيش على ريع الذاكرة”. هذه التصريحات أثارت غضب الجزائر، التي ردت بإجراءات دبلوماسية حازمة، أبرزها استدعاء سفيرها من باريس، وإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية العاملة في منطقة الساحل.
كما لعبت ملفات حساسة، مثل قضية الأرشيف الاستعماري، وجرائم فرنسا خلال الفترة الاستعمارية، والتدخل الفرنسي في الشأن الداخلي الجزائري، دورًا رئيسيًا في تأجيج الأزمة. ولعل الموقف الفرنسي غير المتوازن من قضية التأشيرات، والذي تمثل في تشديد القيود على الجزائريين، زاد من تعقيد العلاقة، وأعطى الانطباع بأن باريس لا تزال تنظر إلى الجزائر بنظرة فوقية.
صنصال ..كلمة السر
تمثل قضية الكاتب الفرانكو-جزائري بوعلام صنصال أحد الجوانب التي تعكس التعقيدات في العلاقة بين الجزائر وفرنسا، خاصة فيما يتعلق بحرية التعبير واللجوء السياسي. صنصال، المعروف بآرائه النقدية الحادة تجاه النظام الجزائري وتوجهاته السياسية، وجد في فرنسا ملاذًا آمنًا، حيث يحظى بحماية المؤسسات الثقافية والسياسية هناك، مما جعله واحدًا من الشخصيات المثيرة للجدل في ملف العلاقات بين البلدين.
مع وجود ملفات أخرى أكثر حساسية على الطاولة، مثل ملف رجال الأعمال الجزائريين المتهمين بالفساد والذين وجدوا ملجأ في فرنسا، يبرز احتمال أن تتم مقايضة صنصال أو شخصيات معارضة أخرى مقابل تسليم بعض الأسماء المطلوبة لدى القضاء الجزائري، خاصة أن باريس لطالما رفضت تسليم شخصيات بارزة متهمة بالفساد، بحجة عدم توفر ضمانات لمحاكمات عادلة.
الدبلوماسية الجزائرية: استراتيجية الضغط والندية
في المقابل، اعتمدت الجزائر تكتيكًا دبلوماسيًا مختلفًا تمامًا عن السابق، يقوم على مبدأ الندية وفرض الشروط بدلاً من تبني نهج التبعية السياسية أو الاقتصادية. تمكنت الجزائر من قلب الطاولة على باريس باستخدام أوراق ضغط متعددة:
-
الملف الطاقوي: جاءت الأزمة في وقت حساس بالنسبة لفرنسا التي تعاني من أزمة طاقوية نتيجة الحرب في أوكرانيا، وهو ما جعل الجزائر ورقة أساسية في تأمين إمدادات الغاز. استغلت الجزائر هذا المعطى لتوجيه رسائل سياسية واضحة بأن استمرار التوتر لن يكون في مصلحة باريس، خاصة مع استعداد الجزائر لتعزيز علاقاتها الطاقوية مع دول أوروبية أخرى، مثل إيطاليا وإسبانيا.
-
التأثير في إفريقيا: في ظل تراجع النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي بعد الانقلابات التي أطاحت بحلفاء باريس في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ظهرت الجزائر كقوة إقليمية قادرة على تقديم بدائل أمنية وسياسية في المنطقة. هذا التحول جعل فرنسا تدرك أن خسارة الجزائر تعني فقدان المزيد من نفوذها في إفريقيا.
-
الملفات الأمنية والهجرة: لطالما لعبت الجزائر دورًا محوريًا في ضبط تدفقات الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا، وفي التنسيق الأمني لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. تعطيل هذه الشراكة كان بمثابة تهديد مباشر للمصالح الفرنسية، ما دفع باريس لإعادة حساباتها.
التراجع الفرنسي: مناورة أم مراجعة حقيقية؟
مع تصاعد الضغط الجزائري، لم تجد فرنسا بدًا من تغيير نهجها، فبدأت محاولات التهدئة عبر سلسلة من الخطوات التصالحية. أرسل الرئيس ماكرون مستشاره الخاص إلى الجزائر حاملاً رسائل إيجابية، كما تم الاتفاق على إعادة فتح قنوات الحوار بين البلدين. تصريحات المسؤولين الفرنسيين أخذت طابعًا أكثر اعتدالًا، حيث تم التأكيد على أهمية الشراكة مع الجزائر، وضرورة تجاوز الخلافات التاريخية.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هذا التحول يعكس مراجعة حقيقية للسياسة الفرنسية تجاه الجزائر، أم أنه مجرد مناورة تكتيكية فرضتها الظروف؟ الواقع يشير إلى أن التغير في الموقف الفرنسي لم يكن خيارًا طوعيًا بقدر ما كان استجابة لضغوط فرضها الواقع الجديد. فرنسا لم تغير موقفها إلا بعد أن أدركت أن التشبث بسياساتها القديمة سيؤدي إلى المزيد من العزلة والتراجع في نفوذها داخل المنطقة.
مستقبل العلاقة: فرصة لجزائر أكثر استقلالية
رغم أن المصالحة الحالية قد تخفف من حدة التوترات، إلا أن العلاقات الجزائرية-الفرنسية لن تعود إلى طبيعتها بسهولة، لأن الأزمة الأخيرة كشفت عن اختلالات عميقة في أسس العلاقة بين البلدين. على الجزائر أن تستغل هذا الوضع لتعزيز استقلالية قرارها السياسي والاقتصادي، وتنويع شراكاتها الدولية بعيدًا عن النفوذ الفرنسي.
في النهاية، ما حدث ليس مجرد مصالحة عادية، بل هو انتصار دبلوماسي جزائري في فرض معادلة جديدة على فرنسا، التي وجدت نفسها مضطرة للتراجع عن سياساتها التقليدية. ويبقى السؤال الأهم: هل ستستفيد الجزائر من هذا الوضع لفرض شراكة أكثر توازنًا مع باريس، أم أن فرنسا ستعود إلى نهجها القديم بمجرد زوال الضغوط الحالية؟