تكشف العملية الأخيرة التي شهدت مقتل جندي إسرائيلي جنوب قطاع غزة عن تعقيدات الواقع الميداني الذي تواجهه قوات الاحتلال، والذي تحاول القيادة العسكرية والسياسية في إسرائيل التخفيف من حدّته إعلامياً. ورغم مرور قرابة تسعة أشهر على الحرب، تزداد المؤشرات على أن إسرائيل تواجه مأزقاً متصاعداً على الأرض، حيث تزداد محاولات المقاومة الفلسطينية، لا سيما من قبل حركة “حماس”، في تنفيذ عمليات نوعية تُربك حسابات الجيش الإسرائيلي وتستنزف قواته في مناطق يُفترض أنها “مؤمنة”.
اتساع دائرة الغضب الداخلي
حادثة اليوم التي وقعت في خان يونس، وأدت إلى مقتل جندي إسرائيلي كان يعمل على حفارة، تندرج في هذا السياق. وبحسب الرواية الرسمية، فإن مجموعة من مسلحي “حماس” خرجوا من نفق، وهاجموا الوحدة الإسرائيلية في محاولة لاختطاف الجندي، قبل أن يردّ ويُقتل برصاصهم. إلا أن تفاصيل الحادثة، لا سيما تكتّم الجيش على اسم الجندي، والطريقة التي أُعلنت بها الواقعة، تكشف عن رغبة واضحة في إدارة الخبر بحذر خشية اتساع دائرة الغضب الداخلي.
منذ بداية الحرب، حرصت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على تقديم صورة “منضبطة” للرأي العام المحلي، حيث تُحاط أخبار مقتل الجنود بسياج من التحكّم الإعلامي، مع تأخير في الإعلان أو تحجيم في التفاصيل، وأحياناً تجاهل بعض الوقائع التي تتصل بعمليات نوعية للمقاومة. ويبدو أن هذه السياسة تتصاعد كلما طال أمد الحرب واتسعت خسائر الجيش على الأرض، سواء في الأرواح أو في المعدات.
هزيمة سياسية وشخصية
الخشية الأكبر لدى الحكومة الإسرائيلية لا تتعلق بالعملية العسكرية بقدر ما تتعلق بتداعياتها السياسية والاجتماعية. فمع تكرار سقوط الجنود، وتراجع الرواية القائلة بـ”الحسم القريب”، تزداد الضغوط الشعبية، لا سيما من عائلات الجنود المحتجزين أو القتلى، والتي تطالب بإنهاء الحرب وإنجاز صفقة تبادل، في مقابل تصلّب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وتحالفه الحاكم، الذين يرون في التراجع عن العملية هزيمة سياسية وشخصية.
وفي الحادثة الأخيرة، يلفت الانتباه أن محاولة الاختطاف كانت قريبة من النجاح، وهو ما يعني أن المقاومة ما زالت تحتفظ بقدرات ميدانية، وهذا في حد ذاته يُعد فشلاً استخبارياً وعسكرياً، تحاول إسرائيل أن تُقلّل من أثره عبر الترويج لقيام الجندي “بالتصدي للمهاجمين”، رغم أن النتيجة النهائية كانت مقتله، وفشل القوات الإسرائيلية في منع الهجوم قبل بدايته.
تحاول إسرائيل من خلال هذه المعالجة الإعلامية أن توازن بين الاعتراف بالواقعة، وتفادي الاعتراف بأن حربها في غزة تحولت إلى حرب استنزاف، مكلفة ومفتوحة بلا أفق سياسي واضح. فكل إعلان عن مقتل جندي جديد يُضاف إلى رصيد الغضب الداخلي، ويُعيد إلى الواجهة الأسئلة الصعبة: لماذا طالت الحرب؟ ما الأهداف الحقيقية؟ وهل هناك خطة خروج؟ هذه الأسئلة تُحرج الحكومة أمام الجمهور الإسرائيلي، لا سيما في ظل أزمة ثقة متنامية، وانقسام داخلي لم يختفِ رغم التصعيد العسكري.
سياسة التعتيم
وفي ضوء ذلك، فإن سياسة التعتيم أو التحكم في نشر أخبار الخسائر لم تعد مجدية كما كانت في بداية الحرب، لأن الواقع على الأرض بات أقوى من البيانات الرسمية، ولأن الرواية المضادة باتت تجد صدى واسعاً، سواء في الإعلام الإسرائيلي أو عبر شبكات التواصل التي تنقل مشاهد من داخل غزة تُظهر حجم الاشتباك المباشر، وصعوبة المهمة التي تواجهها القوات الإسرائيلية.
خسائر الجيش الإسرائيلي لم تعد هامشية أو عابرة، بل باتت جزءاً من المشهد اليومي، تعكس حدود القوة العسكرية في مواجهة مقاومة محلية. وإزاء هذا الواقع، فإن محاولات إخفاء الأثمان الحقيقية للحرب لا تغير من المعادلة شيئاً، بل تؤجل الانفجار السياسي داخل إسرائيل، الذي سيكون وقعه أكبر كلما طال زمن الإنكار.