في قلب الكارثة الإنسانية المتصاعدة في قطاع غزة، برزت ما تُسمّى “مؤسسة غزة الإنسانية” كمحاولة أميركية–إسرائيلية لإعادة تشكيل مسار العمل الإغاثي في القطاع، خارج الأطر الإنسانية المعروفة والمعتمدة دولياً، وفي توقيت بالغ الحساسية، حيث يواجه أكثر من مليوني فلسطيني المجاعة والموت تحت الركام. لكن ما قدّم على أنه خطوة إنسانية، سرعان ما انكشف كأداة سياسية–أمنية مزدوجة، هدفها ليس فقط تقديم القليل من المساعدات، بل إشغال العالم عن الجريمة الأصلية: الإبادة الجماعية.
مفوض الأونروا يكشف جرائم الإبادة
هذه المؤسسة المدعومة أميركياً لا تعمل وفق المعايير الإنسانية المعروفة، ولا بالتنسيق مع الهيئات الدولية الراسخة مثل الأونروا أو برنامج الغذاء العالمي. بل إنها تمثّل نموذجاً مقلوباً للمساعدة: تقديم الغذاء تحت فوهات البنادق، وإجبار المدنيين على التزاحم في مواقع مكشوفة ومحددة سلفاً، ما يجعلهم عرضة للاستهداف العسكري أو الأمني. ما حدث في رفح يوم الثلاثاء مثال فاضح لهذا الواقع، حيث سقط شهداء ومصابون لمجرد أنهم حاولوا الوصول إلى “مساعدة” تُوزع بإذن الجلاد، وتحت مراقبته.
فيليب لازاريني، مفوض الأونروا، لم يُخفِ غضبه. وصف هذه الآلية بأنها “هدر للموارد وإلهاء عن الفظائع”. لم يكن لازاريني يتحدث بنبرة تقنية، بل كان يقرع جرس إنذار أخلاقي وإنساني. فمنظمة تملك أكثر من 400 نقطة توزيع فعالة سابقاً، وتُقصى لصالح مؤسسة “طارئة” ومثيرة للجدل، فهذا لا يُعقل. ما يحصل هو عملية تهميش ممنهجة للمنظومة الدولية، وتغليف للسيطرة العسكرية بإطار “إغاثي” مُعلّب.
الغذاء مقابل النزوح
الخطر لا يكمن فقط في ضعف فعالية هذه المؤسسة الجديدة، بل في الأهداف الأعمق التي تقف خلفها. حين يُجبر الفلسطينيون على النزوح إلى أماكن محددة للحصول على الطعام، فإننا لا نتحدث فقط عن توزيع مساعدات، بل عن هندسة ديموغرافية، عن محاولة إعادة تشكيل الجغرافيا السكانية لغزة، ودفع السكان نحو مناطق محددة، بعيداً عن بيوتهم وقراهم، تحت عنوان “الغذاء مقابل النزوح”. إنها محاولة مدروسة لتحويل المساعدات إلى أداة ضغط نفسي وميداني، تفرض على الفلسطيني شروط البقاء، وتُجهز على ما تبقى من مفهوم “الكرامة” حتى في الجوع.
السياق لا يمكن فصله عن اعتراف نتنياهو نفسه بـ”فقدان السيطرة المؤقتة”، وكأن الأمر مجرد انزلاق إداري، في حين أن الصورة كانت واضحة: إطلاق نار مباشر على جموع المدنيين أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء، واعتداء على أبسط حقوق الإنسان في الحياة والأمان. هذا النموذج من “الإغاثة المسلحة” يفتح الباب لسؤال جوهري: هل ما يحدث في غزة هو توزيع مساعدات، أم اختبار اجتماعي لمستوى الانهيار الذي يمكن أن يتحمله مجتمع تحت الحصار؟
مشروع فاضح للمصالح الإسرائيلية الأميركية
فشل الولايات المتحدة في تمرير هذه المؤسسة كبديل شرعي للأونروا ليس فقط فشلاً فنياً، بل كشف فاضح لمشروع متكامل يسعى لتحويل الكارثة إلى “إدارة” تُناسب المصالح الإسرائيلية–الأميركية. كل شيء يتم تحت السيطرة العسكرية، دون إشراف فلسطيني أو دولي حقيقي، ودون مراعاة للاحتياجات الفعلية أو لكرامة السكان، الذين باتوا يُسحقون وهم يتسولون فتاتاً لا يسدّ رمقاً، بل يُهدّد حياة.
وفي وقتٍ ترفض فيه الأمم المتحدة التعاون مع هذه المؤسسة، فإن استهداف المدنيين في طوابير الغذاء يكشف ما هو أخطر: أن الحرب تجاوزت أهدافها السياسية أو الأمنية، ودخلت مرحلة “تجريب أدوات الإبادة غير المباشرة” من خلال الجوع والإذلال والتشتيت. وبهذا، تتحول المساعدات نفسها إلى جزء من آلة الحرب، لا عنصراً لتخفيفها.
ما يحدث في غزة ليس فقط مجزرة صامتة، بل اختطاف للحق الإنساني في الحياة، تُديره منظومة سياسية مدججة بالسلاح والدعاية، تستخدم المساعدات كسكين مغلف بورق الهدايا. وحتى يَصحّ وصف العالم بأنه أخلاقي، فإن المعيار يبدأ من غزة: إما أن تُوزع المساعدات بكرامة، أو أن تُسقط كل الأقنعة.