يعكس التعميم الصادر عن مجلس الوزراء الفلسطيني بشأن التعامل مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها موظفو القطاع العام، مدى تعقيد الأزمة المالية الراهنة التي تعصف بمؤسسات الدولة، ويؤشر إلى مرحلة حساسة تتطلب إجراءات غير تقليدية للحفاظ على التماسك الاجتماعي والوظيفي في ظل استمرار الاحتلال في حجز أموال المقاصة، المصدر المالي الرئيسي للسلطة الفلسطينية.
هذا التعميم لا يُعد فقط خطوة إدارية، بل هو إعلان سياسي واقتصادي ضمني عن حجم الضغوط المتراكمة، ومحاولة استباقية للحدّ من آثار تفاقم الأزمة على مختلف القطاعات المرتبطة بالموظف العمومي. فالموظف هنا لا يُنظر إليه فقط كعنصر في الجهاز الحكومي، بل كعمود فقري للحياة العامة، ومفتاح رئيسي لاستقرار المجتمع الفلسطيني في ظل غياب سياسات مالية سيادية كاملة، واستمرار الخنق الإسرائيلي الممنهج لموارد الدولة.
جهود الحكومة في إدارة الأزمة
اللافت أن التعميم لم يتوجه فقط إلى الجهات المالية، بل شمل قطاعات التعليم العالي، والاتصالات، والحكم المحلي، وهيئة التقاعد، ما يعكس وعياً حكومياً بأن الأزمة لا تقتصر على تأخر الرواتب فحسب، بل تمتد إلى شبكة من الالتزامات المعيشية والمالية الحيوية التي تطال حياة الموظفين وأسرهم بشكل يومي. هذا الاتساع في دائرة المعنيين يعكس إدراكاً بأن تبعات الأزمة ليست قطاعية أو ظرفية، بل شاملة وتراكمية.
وتحمل التوجيهات الحكومية رسائل عدة، أبرزها أن السلطة لا تزال تحاول إدارة الأزمة ضمن الحد الأدنى من التضامن الداخلي والتوازن المؤسسي، وأنها تدرك أن استمرار الحصار المالي دون حلول، سيقوّض البنية الوظيفية للدولة، ويفتح المجال أمام موجات غضب اجتماعي لا يمكن التنبؤ بحدودها. لذا، فإن طلبها من الجهات المعنية ضمان استمرار الخدمات كالمياه والكهرباء والإنترنت، وعدم قطعها عن الموظفين، لا يهدف فقط لتوفير الحد الأدنى من الكرامة المعيشية، بل أيضاً لتفادي الانفجار الاجتماعي، والحفاظ على صورة الدولة كمظلّة حامية، حتى في ظل الأزمات.
الحفاظ على الجيل القادم
كذلك فإن توجيه التعليم العالي لتقسيط الرسوم الجامعية، والتأكيد على عدم اتخاذ إجراءات ضد أبناء الموظفين، يحمل بعداً أخلاقياً وسياسياً في آن. فالدولة هنا تسعى إلى ضمان ألا يُعاقب الجيل القادم بسبب أزمة لا يد له فيها، وتحاول أن تحافظ على مسار التعليم كقيمة عليا ومكون أساسي من مكونات الصمود الوطني.
أما فيما يتعلق بهيئة التقاعد، فإن تجميد الإجراءات المالية ضد الموظفين مؤقتًا يُعد بادرة تهدف إلى حفظ الثقة بالنظام العام، وضمان أن لا تتحول الأزمة الحالية إلى قطيعة طويلة الأمد بين المؤسسات والموظفين، خاصة أن هذه الفئة تشمل كبار السن والمرضى والمحرومين من أي مصدر دخل بديل.
ضغط فعلي على إسرائيل
الطلب الرسمي برفع تقرير حول الإجراءات المتخذة والنتائج المحققة، يدل على محاولة لضبط المسار الإداري وتقييم مدى الالتزام، وهو في الوقت ذاته إشارة إلى رقابة مركزية على الأداء، وحرص على عدم الاكتفاء بالوعود دون تنفيذ فعلي. ومع ذلك، فإن التطبيق على الأرض سيظل رهناً بمدى تجاوب المؤسسات، وبوجود إرادة سياسية حقيقية لتنفيذ هذه التوصيات، في ظل محدودية الموارد وضغط الموازنات.
هذا التعميم يعكس واقعاً تحاول الحكومة التعامل معه بأدوات مرنة لكنها محدودة، ضمن ظرف سياسي ومالي شديد التعقيد. وهو محاولة للقول إن الدولة لا تزال موجودة، وأنها تحاول الحفاظ على نسيجها الإداري والاجتماعي، رغم سيف الاحتلال الاقتصادي المُسلّط على عنقها. ومع ذلك، تبقى هذه الجهود بحاجة إلى دعم سياسي دولي، وضغط فعلي على إسرائيل للإفراج عن أموال المقاصة، لأن إدارة الأزمة شيء، وإنهاء أسبابها شيء آخر تماماً.