تعيش حركة حماس اليوم واحدة من أكثر المراحل حساسية وتعقيدًا منذ تأسيسها، في ظل تطورات إقليمية ودولية متسارعة، وتغير جذري في موازين القوى التي لطالما اعتمدت عليها الحركة لبناء مشروعها السياسي والعسكري. ومع انكشاف محدودية الدعم الإيراني وغياب ردود فعل حقيقية من الحلفاء التقليديين في ما يُعرف بمحور “المقاومة”، تجد حماس نفسها معزولة نسبيًا، ومحاصَرة بين ضغط الميدان في غزة واستحقاقات السياسة الدولية.
تراجع التحالف مع طهران
تراجع التحالف مع طهران لم يكن مجرد اختلال في التمويل أو الدعم العسكري، بل انكشاف لرؤية استراتيجية كانت قائمة على وهم “وحدة الجبهات”. فخلال التصعيد المستمر في غزة، ظهرت الأذرع الإقليمية المرتبطة بإيران، من حزب الله إلى الحوثيين، في موقف المتفرج، فيما تلقّت طهران ضربة مباشرة من واشنطن من دون أن تحرّك جبهاتها المرتبطة. وهو ما جعل حماس تفقد عنصر الردع الاستراتيجي، وتكتشف هشاشة تحالفاتها التي لطالما استندت إليها في وجه الضغوط الدولية والعربية.
ورغم التراجع الواضح في القدرات القتالية بفعل الضربات المركزة على بنيتها العسكرية في القطاع، تصرّ الحركة على التمسك الكامل بالسلطة في غزة، وتطرح في المحادثات غير المعلنة شروطًا تكاد تكون “تنظيمية” بحتة، أبرزها الحفاظ على مكتبها السياسي، وعدم تجميد أموالها، والمشاركة في الأجهزة الأمنية. هذه المطالب تعكس بوضوح أن الحركة لا تزال تنظر إلى القطاع بوصفه مركز نفوذ سياسي، لا كأرض منكوبة تحتاج إلى إعادة إعمار وإعادة إنعاش حياة مليوني إنسان.
خلل كبير في أدوات الحركة
اللافت أن حماس، التي كانت تهاجم الولايات المتحدة بوصفها راعية للانحياز الإسرائيلي، باتت تطالب الآن بضمان أميركي رسمي لأي اتفاق تهدئة، ما يكشف عن اختلال كبير في أدوات الحركة ومفردات خطابها. هذا التحول لا يعكس براغماتية سياسية بقدر ما يكشف عن اضطرار ناتج عن العزلة والضغط، وغياب أي أوراق حقيقية للمناورة بعد أن باتت المبادرة السياسية بيد واشنطن وتل أبيب، بدعم وتنسيق مع عواصم عربية فاعلة.
في هذا السياق، تبرز دعوات عربية واضحة، خاصة من قطر ومصر، تطلب من حماس القبول بفرصة التهدئة وربما الدخول في تسوية أوسع، قد تتقاطع مع الرؤية الإسرائيلية–الأميركية حول مستقبل القطاع وحتى الحل النهائي. هذه الفرصة، وفق مراقبين، ليست فقط لإنهاء القتال بل لإعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية دوليًا، ضمن شروط قد لا تكون مثالية، لكنها قد تمنع مزيدًا من الانهيار.
مصير غزة
النقد الأبرز الموجه للحركة اليوم يتمثل في استمرارها بربط مصير غزة بمصيرها التنظيمي. إذ لم تظهر في شروطها ولا في خطابها الرسمي ما يشير إلى تركيز على القضايا المدنية أو مطالب إنسانية مباشرة، كرفع الحصار، أو فتح المعابر، أو ضمانات الإعمار. بل بدا الخطاب متقوقعًا داخل حسابات البقاء السياسي، وكأن المأساة المستمرة لا تكفي لإعادة النظر في استراتيجيات الحكم.
هذه اللحظة السياسية الحرجة تتطلب من حماس ليس فقط قبول التهدئة، بل إعادة تقييم جذرية لدورها. فغزة لم تعد تتحمل أن تكون رهينة لمعادلات الفصائل، ولا أن تظل ساحةً لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية. وإذا استمرت الحركة في التمسك بسلطة لم تعد قادرة على حمايتها أو تطويرها، فإنها تخاطر بتكريس عزلة شعبها، وتفويت فرصة قد تكون الأخيرة لإنقاذ ما تبقى من المشروع الوطني الفلسطيني في صورته الموحدة.