رغم وصول سفن وقوافل مساعدات من دول عديدة إلى غزة، كما في الحالة الإماراتية التي أرسلت مؤخراً سفينة تحمل أكثر من 2100 طن من المواد الإغاثية المتنوعة، يبقى السؤال الكبير الذي يطرحه المتابعون والمراقبون: أين تذهب هذه المساعدات، ولماذا لا ينعكس وصولها على أرض الواقع في قطاع يعيش واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخه، وسط تفشي الجوع والمجاعة؟
المساعدات لا تصل للغزيين
الحالة الإماراتية تمثل نموذجاً واضحاً للجهد العربي في محاولة تخفيف المعاناة عن سكان القطاع. فالسفينة التي رست في ميناء أشدود الإسرائيلي، ضمن مبادرة “الفارس الشهم 3″، تحمل آلاف الأطنان من المواد الغذائية، والدقيق، والمستلزمات المخصصة للأطفال والنساء. وتسبقها قوافل أخرى دخلت القطاع خلال الأسابيع الماضية محمّلة بما يفترض أنه دعم طارئ وفاعل في وجه أزمة المجاعة المتفاقمة.
ومع ذلك، لا يزال الواقع الإنساني في غزة يُظهر أن هذه المساعدات، مهما بلغ حجمها، لا تصل فعلياً إلى من يحتاجها، أو تصل بكميات شحيحة غير كافية، أو يتم اعتراضها وسرقتها في الطريق، وفقاً لما توثقه تقارير أممية وشهادات ميدانية.
في ظل الحصار الخانق المفروض من الاحتلال الإسرائيلي، تتعقد مسارات إدخال المساعدات، ويتحول كل شحن إنساني إلى عملية تفاوض سياسية ولوجستية شاقة. يُفرَض على تلك المساعدات المرور عبر نقاط تفتيش إسرائيلية صارمة، وغالباً ما يتم التحكم في توقيت إدخالها، وكمّيتها، وحتى في نوعية المواد المسموح بها، مما يجعلها عرضة للتقليص أو الحجز أو التأخير، وبالتالي تفقد قيمتها في لحظة الحاجة القصوى.
نهب المساعدات
وفضلاً عن ذلك، تُشير بعض التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة ومنظمات إغاثية، إلى أن جزءاً من المساعدات التي تدخل عبر آليات مؤقتة أو عبر المعابر المحكومة بالسيطرة الإسرائيلية، يُنهَب من قبل جماعات مسلّحة أو يُباع في السوق السوداء، أو يُحجب عن فئات واسعة من المحتاجين لأسباب تتعلق بالولاءات السياسية أو الانتماء الجغرافي. فحتى المساعدات التي تنجح في دخول القطاع لا تخضع في كثير من الأحيان لتوزيع عادل أو منظم، ما يجعل أثرها ضعيفاً على الأرض.
تتفاقم هذه الإشكالية وسط واقع فوضوي فرضه تدمير مؤسسات الدولة المحلية، بما في ذلك البلديات ومراكز توزيع الخدمات، فضلاً عن الانهيار الشامل في سلاسل الإمداد، مما يصعب معه إيصال المساعدات إلى من هم بأمس الحاجة إليها، خصوصاً في المخيمات ومراكز الإيواء العشوائية والمناطق النائية التي خرجت عن نطاق السيطرة التنظيمية.
وتقترن هذه التحديات بعنصر خطير آخر، يتمثل في تعرض نقاط التوزيع ذاتها للقصف أو إطلاق النار، كما حدث مؤخراً في أكثر من منطقة وسط وجنوب قطاع غزة، حيث سقط عشرات القتلى والمصابين أثناء انتظارهم الحصول على مساعدات غذائية. ومع تكرار هذه الاعتداءات، أحجمت الكثير من الجهات عن التواجد الميداني المكثف، وتراجعت عمليات التوزيع المباشر، لتتكدس المساعدات في مناطق محاذية دون ضمانات إيصالها الآمن.
العجز الدولي عن فرض آليات حماية حقيقية للمدنيين
في ضوء ذلك، فإن أزمة المساعدات في غزة لم تعد فقط مسألة كميات تصل أو لا تصل، بل قضية مركبة تتعلق بمنظومة كاملة من الحصار والتجويع المتعمّد، وسوء الإدارة، والاستغلال السياسي، والعجز الدولي عن فرض آليات حماية حقيقية للمدنيين ومساعداتهم. وما لم يُوضع حد لهذه العوامل مجتمعة، ستظل المساعدات التي ترسلها الدول – مهما بلغت نواياها – عاجزة عن إحداث الفارق المطلوب، وستبقى المعاناة الإنسانية في غزة أكبر من أي قافلة أو سفينة عابرة.
إن ما يحتاجه سكان القطاع لا يقتصر على تدفق الكميات، بل يتطلب بيئة آمنة ومستقرة لتوزيع المساعدات بشفافية وعدالة، في ظل رقابة دولية فاعلة، ونظام واضح يحول دون تسربها أو احتكارها أو تسليحها. فبغير هذا، سيظل المشهد الإنساني في غزة يدور في حلقة مفرغة من إرسال واستقبال دون أثر فعلي يُشعر به من ينامون بلا طعام، ويستيقظون تحت القصف بحثاً عن وجبة لا تأتي.