في مدينة بيت حانون، شمال قطاع غزة، كانت أم محمد تنتظر عودة ابنها الوحيد من رحلة قصيرة لكنها محفوفة بالخطر؛ رحلة لم تكن إلى جبهة قتال أو مواجهة، بل إلى طابور طويل أمام نقطة لتوزيع المساعدات، حيث كان الأمل معلقاً على كيس من الطحين يسدّ رمق العائلة. سبع شقيقات ووالدة واحدة، وعائل بأحلام بسيطة اسمه محمد يوسف الزعانين، لم يتجاوز العشرين من عمره، خرج من منزله حاملاً في يده بطاقة وأملًا، وفي قلبه رجاء بأن يعود بقليل من الدقيق ليملأ البيت دفئًا بعد ليالٍ طويلة من الجوع.
رصاصة قناص
لكن محمد لم يعد كما خرج. فقد اغتالته رصاصة قناص إسرائيلي بينما كان ينتظر دوره. لا سلاح في يده، ولا تهديد يشكّله على أحد، سوى جسد أعزل وروح مملوءة بالعزيمة. رصاصة واحدة كانت كفيلة بإطفاء نور البيت، وتحويل الانتظار إلى مأتم، والأمل إلى فاجعة.
وحدها الكاميرات وثّقت الجريمة. ظهر محمد مستلقياً على لوح خشبي، مسجّى بكفنه، ملفوفاً لا بما حمل من طحين، بل بما تبقى من كرامة إنسان استُهدف لأنه فقط أراد أن يطعم أسرته. صورة واحدة كفيلة بإثارة غضب الضمير الإنساني. آلاف النشطاء تناقلوا المشهد: شاب خرج حاملاً الأمل فعاد محمولاً على الأكتاف.
الأم المكلومة
في بيت حانون، خيم الصمت على المنزل. سبع شقيقات ينظرن إلى الباب الذي كان محمد يخرج منه كل صباح، وها هو اليوم يعود عبره للمرة الأخيرة، بلا كلمات، بلا خطوات، فقط جثمان يروي الحكاية.
في المشهد ذاته، كانت الأم تنتظر عند النافذة. لم تكن تنتظر جثمانًا، بل كانت تعدّ الدقائق علّه يعود وهي تُحضّر له رغيفًا ساخنًا. لم تعلم أن آخر ما سيحمله إليها ليس دقيقًا، بل فجيعة لا تُشفى، وألماً لا تُداويه الأيام.
قال النشطاء: “محمد لم يكن يحمل سلاحًا، بل كيسًا من القهر، اسمه الطحين”. وكتب آخرون: “لم يُقتل لأنه إرهابي، بل لأنه فلسطيني، ولأنه أراد أن يأكل”. في زمن أصبحت فيه المساعدات الإنسانية مصائد موت، لا تُقدّم لمن هم بحاجة، بل يُدفع ثمنها من دم الأبرياء.
شهيد كرامة
اليوم، محمد ليس حالة فردية، بل وجه من وجوه غزة الجريحة، حيث الموت يتربص بمن يسعى إلى الحياة. في كل نقطة توزيع مساعدات، هناك أم تنتظر، وهناك شاب يحمل الأمل، وربما جثمان جديد يُضاف إلى قافلة العائدين صامتين.
محمد لم يكن شهيد طحين فقط، بل شهيد كرامة. مات وفي قلبه حياة لأمه وشقيقاته، مات لأن جوعه أصرّ أن يواجه القهر، لكنه لم يمت وحده، فقد اغتيل معه معنى الإنسانية في أعين صامتة، وعالم يدّعي الحقوق ويتجاهل الدم.