في مشهد يبدو نادرًا ومربكًا للوهلة الأولى، تقف مجموعة من اليهود الأرثوذكس بملابسهم التقليدية، وهم يحملون أعلام فلسطين ويرددون شعارات مناهضة للصهيونية، لا في إحدى العواصم العربية، بل أمام مقر الأمم المتحدة، أو في قلب القدس الغربية، أو حتى على حدود غزة المحاصرة. إنهم أتباع حركة “ناتوري كارتا”، الطائفة اليهودية التي ترفع صوتها ضد “دولة إسرائيل”، وتعلن ولاءها الديني والإنساني للقضية الفلسطينية، مؤكدين أن الصهيونية ليست يهودية، بل انحراف خطير عن التوراة والتقاليد.
جذور الحركة: يهود ضد الدولة
تأسست حركة “ناتوري كارتا” عام 1938 في القدس، من قبل حاخامات أرثوذكس رأوا أن المشروع الصهيوني لا يمت لليهودية الحقيقية بصلة، بل يشكل خطرًا على الهوية الدينية اليهودية، لأنه يتحدى مشيئة الرب، حسب معتقدهم، التي قضت بأن يعيش اليهود في الشتات إلى أن يأتي “المسيح المخلص”.
يعتقد أتباع ناتوري كارتا أن قيام دولة إسرائيل قبل مجيء الماشيح (المسيح المنتظر) يُعد تحديًا لإرادة الإله وخطيئة دينية جسيمة، وبالتالي فإنهم يرفضون وجود إسرائيل ككيان سياسي. في نظرهم، النكبة الفلسطينية لم تكن فقط مأساة عربية، بل كارثة لليهودية نفسها، لأنها وظفت الدين غطاءً لمشروع قومي عسكري استيطاني.
ناتوري كارتا والقضية الفلسطينية: التحالف غير المتوقع
في الوقت الذي تُصنف فيه غالبية الأنظمة الصهيونية أن كل من يعارض إسرائيل هو “معادٍ للسامية”، يأتي موقف ناتوري كارتا ليفند هذه المعادلة السطحية، ويوجه ضربة أخلاقية عميقة لمزاعم الصهيونية. ففي مسيرات يوم القدس العالمي، وفي المؤتمرات المناهضة للصهيونية في إيران وأوروبا وأمريكا، يظهر حاخامات ناتوري كارتا كـ”صوت يهودي مقاوم”، يرفع لافتات كتب عليها:
“اليهودية ترفض دولة إسرائيل”
“فلسطين حرة من النهر إلى البحر”
لقد زار بعض أفراد الحركة قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وشاركوا في مؤتمرات دعم المقاومة، حتى أنهم التقوا بقيادات من حركتي حماس وحزب الله، مؤكدين أن عداءهم ليس مع العرب أو المسلمين، بل مع المشروع الصهيوني الذي تسبب في تشويه صورة اليهودية أمام العالم.
حوار مع الحاخام “إلياهو فايس”: “الصهيونية سرقت ديننا”
في حوار تخيلي مع الحاخام “إلياهو فايس”، أحد رموز الحركة في نيويورك، أوضح موقفه:
س: لماذا ترفضون إسرائيل بهذا الشكل الحاد؟
ج: لأن إسرائيل ليست دولة لليهود، بل دولة ضد اليهود. التوراة تأمرنا بعدم العودة إلى الأرض المقدسة بالقوة. نحن نؤمن أن الله نفانا بسبب خطايانا، وأننا يجب أن ننتظر الفداء الإلهي، لا أن نقيم دولة بقوة السلاح والسياسة.
س: كيف ترون الفلسطينيين؟
ج: إنهم مظلومون. نحن نعتبرهم أصحاب الأرض الشرعيين. والظلم الذي تعرضوا له ليس فقط كارثة إنسانية، بل كارثة دينية. إن الصهاينة جعلوا من دماء الفلسطينيين جسراً لقيام كيان لا علاقة له بالديانة اليهودية.
س: هل أنتم مع حل الدولة الواحدة أو الدولتين؟
ج: لا نناقش الحلول السياسية، بل نطالب بزوال الكيان الصهيوني تماماً. نؤمن أن اليهود يجب أن يعيشوا تحت حكم الفلسطينيين كما عاشوا لقرون في ظل الخلافة الإسلامية، بأمان وسلام.
مناهضة بن غفير… من الداخل: حينما ينقلب السحر على الساحر
في السياق ذاته، شهدت الساحة السياسية الإسرائيلية مؤخرًا مشهدًا غير مسبوق: تعرض وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير وزوجته آيلا لاعتداء من قبل متظاهرين يهود في قلب تل أبيب، بعد محاولة استفزازهم، وفقًا لموقع “كيپا” العبري. قام المحتجون بقطع الطريق على سيارته، وصفعت متظاهرة زوجته، في لحظة رمزية توحي بانكشاف الخطاب العنصري المتطرف الذي يتبناه بن غفير أمام جمهور بدأ يشعر بأنه ضحية لأكاذيب اليمين القومي.
ورغم أن هذا الحدث يبدو معزولًا، إلا أن صوت ناتوري كارتا يبدو متناغمًا معه على نحو غير مباشر. فهؤلاء الحاخامات يصفون بن غفير ورفاقه بأنهم إرهابيون يسيئون لليهودية الحقيقية، ويحولون الدين إلى أداة للهيمنة والقمع.
الصهيونية… بين الدين والسياسة: أزمة شرعية أخلاقية
يرى محللون أن مواقف ناتوري كارتا تمثل إحراجًا مستمرًا للدولة العبرية، إذ تنزع عنها الغطاء الديني الذي طالما سعت لتسويقه أمام العالم. ففي حين تتحدث المؤسسة الصهيونية عن “وطن قومي لليهود”، يصر هؤلاء الحاخامات على أن الدين اليهودي لا يقر هذه الفكرة إطلاقًا، بل يعتبرها تجديفًا.
وفي زمن تتزايد فيه الأصوات الرافضة لجرائم الاحتلال في غزة والضفة، ومع تصاعد موجة الانتقادات من داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، تُعدّ مواقف ناتوري كارتا بمثابة صفعة روحية ونفسية للمشروع الصهيوني، لأنها تُثبت أن المشكلة ليست مع “اليهود”، بل مع “الصهيونية”.
صوت نقي في زمن التزييف
في عالم تهيمن عليه الروايات المنتقاة بعناية لتبرير الاحتلال، يظل موقف ناتوري كارتا شاهداً أخلاقياً نادراً: يهود يرفضون الصهيونية باسم الدين، ويتضامنون مع الفلسطينيين باسم الإنسانية. إنها حركة تثبت أن الضمير لا جنسية له، وأن الحقيقة لا يمكن أن تُدفن تحت ركام الدبابات والمستوطنات.
وإذا كانت السلطة والمال والدعم الغربي قد صنعوا إسرائيل، فإن التاريخ سيحتفظ أيضاً بأصوات الحاخامات الذين قالوا “لا”، بينما كان العالم صامتًا.