أعلن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، اليوم الاثنين، إرسال وفد تفاوضي إلى العاصمة القطرية الدوحة غدًا، في مسعى لاستئناف مفاوضات التهدئة مع حركة حماس. لكن هذا الإعلان لم يخلُ من نبرة التهديد، حيث أكد البيان أن “المفاوضات ستتم تحت النار”، في إشارة إلى استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية المكثفة في قطاع غزة.
البيان الرسمي جاء عقب مكالمة هاتفية بين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب، وعلى هامش لقاء جمعه بالمبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف والسفير الأميركي لدى إسرائيل مايك هاكابي، ما يعكس حجم التنسيق الثلاثي الجاري بين تل أبيب وواشنطن والدوحة، وربما تفاهمات مسبقة حول جدول الأعمال والحدود السياسية للمفاوضات المرتقبة.
الإفراج عن عيدان ألكسندر يعيد فتح الباب
تأتي هذه التطورات السريعة بعد ساعات من إفراج كتائب القسام عن الجندي الإسرائيلي الأميركي عيدان ألكسندر، وتسليمه إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مدينة خان يونس، ضمن اتفاق تمّ بين حماس والولايات المتحدة دون إشراك الجانب الإسرائيلي. خطوة فاجأت تل أبيب وأربكت سرديتها حول التفاوض من موقع القوة، لكنها في الوقت ذاته فتحت ثغرة سياسية للعودة إلى الطاولة بعد انسداد طويل.
وأفاد مصدر مطلع على المحادثات غير المباشرة بين حماس وواشنطن لشبكة CNN أن إطلاق سراح ألكسندر سيمهد لمفاوضات فورية من أجل “ترتيب أوسع يهدف إلى إنهاء الحرب في غزة”، مضيفًا: “سندخل فورًا في مفاوضات للتوصل إلى اتفاق سلام”.
رسائل متناقضة من الجانب الإسرائيلي
تصريحات نتنياهو وتصعيده العسكري المتواصل على الأرض تطرح علامات استفهام حول جدية تل أبيب في السعي إلى تسوية مستدامة. فإرسال الوفد إلى الدوحة تحت وقع القصف ليس فقط إشارة إلى هشاشة النية التفاوضية، بل أيضًا وسيلة للضغط الميداني في ظل إدراك إسرائيل أن البيئة السياسية بدأت تتحول ضدها، لا سيما بعد التحركات الأميركية التي باتت تميل إلى لعب دور مستقل.
من جهة أخرى، يُقرأ الإعلان الإسرائيلي على أنه محاولة لاحتواء الانفراد الأميركي بالتفاوض مع حماس، خشية أن يُفرز مسار بديل لا يخضع للرؤية الإسرائيلية الصارمة، خاصة في ملف المحتجزين، حيث ترى تل أبيب أن أي صفقة لا تمر عبرها تُقوّض سلطتها على المشهد الإقليمي.
الولايات المتحدة تدخل بثقلها… وتهمّش إسرائيل مؤقتًا
ما يُثير الانتباه في هذا السياق هو التقدّم الأميركي الحاسم في الوساطة، بعيدًا عن التنسيق الإسرائيلي التقليدي. الإفراج عن ألكسندر جاء ثمرة مفاوضات ثنائية بين حماس وواشنطن، في سابقة لم تشهدها جولات التفاوض السابقة، ما يعكس تحوّلًا نوعيًا في ديناميكيات الصراع وتوازنات التفاوض.
الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يُخفِ نزعته إلى تحويل الخطوة إلى ورقة سياسية كبرى، إذ وصف الإفراج عن ألكسندر بأنه “خطوة أولى نحو إنهاء الحرب والإفراج عن جميع المحتجزين”، كما ورد في صحيفة تايمز أوف إسرائيل. هذا التوصيف لا ينطوي فقط على أمل دبلوماسي، بل على رغبة واضحة في إحراز اختراق سياسي قبيل الاستحقاقات الانتخابية الأميركية، وتعزيز صورة واشنطن كوسيط فعال بدلًا من مجرّد حليف لإسرائيل.
قراءة تحليلية: استئناف المفاوضات تحت ضغط الواقع
المشهد السياسي اليوم يشير إلى مفارقة لافتة: مفاوضات تنطلق بقوة الدفع الأميركي، ومقاومة ميدانية مستمرة، وإسرائيل تفاوض تحت القصف الذي تشنه بنفسها. وهو ما يخلق حالة من التناقض البنيوي في مسار التسوية، إذ أن منطق “القوة الميدانية” يتعارض جذريًا مع منطق “التفاوض المرن”، ويُفقد المحادثات جزءًا من صدقيتها المفترضة.
ما يحدث اليوم ليس مجرد استئناف لجولات تفاوضية تقليدية، بل ربما بداية مسار جديد تُرسم فيه قواعد اللعبة بطريقة مغايرة: واشنطن تميل إلى إخراج بعض الملفات من العباءة الإسرائيلية، وحماس تستثمر الورقة الأميركية لاستعادة زمام المبادرة، والدوحة تعود إلى المشهد كجسر عبور محتمل للمرحلة المقبلة.
إلا أن السيناريو المتفائل يظل محفوفًا بالمخاطر، فالميدان لا يزال مشتعلاً، واليمين الإسرائيلي لن يسمح بنتائج تُقرأ كـ”تنازلات” لحركة تُصنّفها تل أبيب منظمة “إرهابية”. وفي المقابل، فإن المقاومة الفلسطينية تدرك أن أي هدنة لا تضمن فك الحصار، وإطلاق سراح الأسرى، وإعمار القطاع، ستُعتبر فشلًا لا صفقة.
خلاصة المشهد: مسار محفوف بالتناقضات
عودة الوفود إلى طاولة التفاوض، بضغط ميداني أميركي ووسط غضب إسرائيلي مكبوت، لا تعني أن السلام قريب. لكنها تُنبئ بأن المرحلة الحالية مختلفة عن سابقاتها من حيث التوازنات. الفاعلون تغيروا، والمبادرات لم تعد حكرًا على تل أبيب، وهو ما يجعل نتائج أي حوار مقبل أكثر تقلبًا، وربما أكثر جرأة إذا نضجت الظروف.
اللافت أن حماس نجحت في تقديم نفسها كطرف تفاوضي ناضج، قادر على التواصل المباشر مع واشنطن، دون الحاجة إلى وسطاء إسرائيليين أو حتى قطريين بالمعنى الكلاسيكي، في حين بدت إسرائيل مُتأخرة في التقاط اللحظة، رغم كل ما تملكه من أدوات ضغط.