تشهد الجهود الدبلوماسية الهادفة إلى إنهاء الحرب في أوكرانيا جولة جديدة من التعقيد، مع تأجيل المفاوضات التي كانت مقررة بين المبعوثين الروس والأوكرانيين في إسطنبول، والتي كان من المنتظر أن تمهّد لتقدم ملموس في مسار التهدئة. وقد نقلت وكالة الأنباء الألمانية عن مصادر في وزارة الخارجية التركية أن اللقاءات الثنائية لم تُستكمل كما كان مخططاً، وتم ترحيلها إلى يوم الجمعة، ما يعكس هشاشة التفاهمات الأولية وصعوبة تجاوز العقبات الجوهرية بين الطرفين المتصارعين.
التأجيل جاء بعد اجتماع ليلي بين وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ووفد روسي، عقد في مدينة إسطنبول يوم الخميس، حيث ناقش الجانبان سبل استئناف الحوار مع أوكرانيا، والإطار المحتمل لجدول الأعمال المشترك. وبحسب المصدر التركي، فإن المرحلة المقبلة ستشهد مفاوضات بصيغ مختلفة، من بينها محادثات ثلاثية تجمع روسيا وأوكرانيا وتركيا، وأخرى تجمع تركيا وأوكرانيا مع الولايات المتحدة، بينما لم يتأكد بعد ما إذا كان سيتم عقد اجتماع رباعي يضم روسيا والولايات المتحدة إلى جانب كييف وأنقرة.
هذه التعقيدات الدبلوماسية جاءت على خلفية زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى أنقرة، حيث أجرى مشاورات موسعة مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان، في مسعى لتقوية أواصر الدعم الإقليمي والدولي، وتثبيت الدور التركي كوسيط محوري. وتبدو أنقرة، التي تحتفظ بعلاقات متوازنة مع الطرفين، حريصة على إبقاء قنوات التفاوض مفتوحة، لكنها في الوقت ذاته تواجه تحدياً متزايداً في ضبط توازناتها أمام الضغطين الروسي والأميركي.
من جانبه، أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو عزمه لقاء نظيره الأوكراني أندري سيبيغا في إسطنبول، بينما سيكلف مسؤول أميركي أدنى رتبة للتواصل مع الجانب الروسي، في إشارة واضحة إلى أن واشنطن لا تزال متحفظة بشأن الدخول في حوار مباشر ورفيع المستوى مع موسكو في هذه المرحلة. روبيو، الذي كان قد شارك في محادثات وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي في أنطاليا، أبدى تشاؤماً صريحاً بشأن نتائج اللقاءات، مؤكداً أن بلاده لا تعوّل كثيراً على هذه الجولة.
تركيا بين الواقعية السياسية وطموح الوساطة
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022، سعت تركيا بقيادة رجب طيب إردوغان إلى تعزيز موقعها كوسيط إقليمي قادر على بناء جسور بين موسكو وكييف. وقد تمكنت في مراحل سابقة من تسهيل مفاوضات مباشرة بين الطرفين، وأبرزها اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود الذي أبرم برعاية أممية وتركية في يوليو 2022، واعتُبر حينها إنجازاً دبلوماسياً بالغ الأهمية في ظل تدهور العلاقات بين الشرق والغرب.
إلا أن الدور التركي ظل محكوماً بعدة إكراهات، أبرزها عضوية أنقرة في حلف شمال الأطلسي، وما يفرضه ذلك من التزامات سياسية، إلى جانب اعتمادها الكبير على روسيا في ملفات حيوية مثل الطاقة والسياحة والتعاون العسكري. هذه المعادلة جعلت أنقرة تميل في كثير من الأحيان إلى ممارسة «الحياد النشط»، من دون أن تُخفي طموحها في لعب دور الوسيط الكبير الذي يُعيد لتركيا ثقلها التاريخي والجيوسياسي في المنطقة.
اليوم، ومع تعثر المفاوضات مجدداً، تبدو تركيا أمام اختبار دبلوماسي جديد: فإما أن تُثبت قدرتها على هندسة توافقات مرحلية تمهّد لإنهاء الصراع، أو أن تكتفي بلعب دور «المضيف» في لقاءات رمزية، تتكرر من دون أن تفضي إلى نتائج ملموسة. وفي الحالتين، يبقى الرهان الأكبر بالنسبة لتركيا هو الحفاظ على موقعها وسط المشهد الدولي المتقلّب، دون الانحياز المعلن لطرف على حساب آخر، وهي مهمة لا تقل تعقيداً عن أصل النزاع نفسه.