في ظل تزايد أعداد الشهداء والجرحى في قطاع غزة، وفي وقت تشهد فيه ساحات التوزيع الإنساني تحوّلاً إلى مشاهد من الرعب والموت، يتعاظم الحديث عن الضغوط الدولية، وخصوصاً الأوروبية، كوسيلة محتملة لكبح جماح العمليات العسكرية الإسرائيلية. تصريحات صدرت من لندن وباريس خلال الأيام القليلة الماضية، تحمل نبرة غير معتادة من الحدة، سواء من الحكومة البريطانية بقيادة كير ستارمر أو من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكلاهما أشار بشكل مباشر إلى أن الوضع الإنساني في غزة بلغ حداً لا يمكن السكوت عنه.
فرض عقوبات على المستوطنين
لكنّ السؤال المحوري في هذا السياق لا يتعلق فقط بنبرة الإدانة، وإنما بجدوى هذه الضغوط في تغيير السلوك الإسرائيلي فعلاً، وإلى أي حد يمكن للدبلوماسية الأوروبية أن تتحول من مجرّد خطاب أخلاقي إلى أدوات فاعلة توقف الحرب أو تفرض التزامات على تل أبيب.
حتى الآن، تبدو الإجراءات الأوروبية محدودة التأثير. صحيح أن بريطانيا علقت مفاوضات التجارة الحرة مع إسرائيل وفرضت عقوبات على عدد من المستوطنين، لكن هذه الخطوات ما تزال رمزية في جوهرها. فهي لا تمس جوهر العلاقة الاقتصادية والعسكرية الوثيقة بين أوروبا وإسرائيل، ولا تغيّر من ديناميكيات الدعم السياسي والدبلوماسي الذي حظيت به إسرائيل طوال فترة الحرب.
كما أن اللغة المستخدمة في الخطاب الأوروبي، رغم تطورها في حدّتها، ما تزال مشروطة وغير نهائية. التصريحات البريطانية، على سبيل المثال، تضمنت تلميحات بإمكانية اتخاذ المزيد من التدابير “إذا لم يتغير الوضع”، وهي صيغة توحي بمزيد من الوقت والمجال للمناورة أمام إسرائيل، وليس بإجراءات ملزمة وفورية.
محاولة احتواء الغضب الشعبي
اللافت أن هذه الضغوط تأتي متأخرة نسبياً، بعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على اندلاع الحرب، وبعد أن تجاوز عدد الضحايا في غزة حاجز الـ54 ألفاً، ووسط انهيار شبه تام للبنية التحتية الصحية والإنسانية في القطاع. هذا التأخير أضعف من وزن التحرك الأوروبي، وجعله أقرب إلى محاولة احتواء الغضب الشعبي والإعلامي في الداخل الأوروبي، أكثر من كونه تعبيراً عن تحوّل استراتيجي في العلاقة مع إسرائيل.
كما أن الحسابات السياسية الداخلية في العواصم الأوروبية تلعب دوراً في تشكيل سقف الضغط الممكن. في فرنسا، على سبيل المثال، يدرك ماكرون حساسية الملف الإسرائيلي وسط الجاليات المختلفة، وفي بريطانيا، لا تزال العلاقة مع الولايات المتحدة – الحليف الأكبر لإسرائيل – عاملاً ضاغطاً يحدّ من اتخاذ مواقف أكثر حدة.
تجميد الاتفاقيات الاقتصادية
على الجانب الإسرائيلي، لم تُبدِ الحكومة حتى اللحظة أي إشارات إلى أن هذه الضغوط تؤثر فعلياً على قراراتها العسكرية أو السياسية. الخطاب الرسمي لا يزال يركّز على “الحق في الدفاع عن النفس”، ويحمّل حماس مسؤولية الأزمة الإنسانية، ويواصل تنفيذ العمليات العسكرية، بما فيها في رفح، التي شهدت مؤخراً واحدة من أبشع المجازر الإنسانية في محيط توزيع المساعدات.
وإذا ما أُريد للضغط الأوروبي أن يتحول إلى عنصر مؤثر حقيقي، فلا بد أن يُرفق بخطوات ملموسة تتعدى البيانات والتصريحات. ذلك يشمل فرض عقوبات حقيقية على صادرات السلاح، أو تجميد الاتفاقيات الاقتصادية، أو التحرك في مجلس الأمن الدولي بشكل أكثر حزماً. دون ذلك، ستظل هذه المواقف في دائرة الضغط الرمزي أو الأخلاقي، الذي لا يُغير شيئاً على أرض الواقع.
ما يُعقد الأمر أيضاً هو غياب جبهة أوروبية موحدة. إذ تختلف مواقف الدول الأوروبية تجاه إسرائيل، ويتباين مستوى تأييدها للفلسطينيين بحسب مصالحها وتحالفاتها، ما يجعل من الصعب تحويل التحركات الفردية إلى استراتيجية ضغط متكاملة.
إبادة غزة شاهد حجم الفشل الدولي
ومع ذلك، لا يمكن التقليل من أهمية هذا التحول الخطابي. إذ أن ارتفاع الأصوات في عواصم كبرى مثل لندن وباريس، وبدء الحديث عن العقوبات وتجميد العلاقات، قد يكون بداية ضغط تصاعدي، إذا ما ترافق مع ضغط شعبي متنامٍ، وتصاعد أصوات من داخل إسرائيل نفسها تدعو لوقف الحرب أو إعادة تقييم المسار.
لكن الواقع حتى اللحظة يقول إن الضغط الأوروبي، كما هو حالياً، لا يكفي لإحداث اختراق حقيقي. فإسرائيل، التي تمضي في حربها بكل ثقلها السياسي والعسكري، تدرك أن السقف الدولي ما يزال مرناً، والخطوط الحمراء ما تزال قابلة للتجاوز.
وفي انتظار أن تُختبر الجدية الأوروبية بخطوات حقيقية، يبقى الميدان في غزة هو الشاهد الوحيد على حجم الفشل الدولي، حيث الأرواح تُزهق في طوابير الخبز، لا في ساحات القتال.