الخرطوم – خاص | بعد شهور من الاقتتال العنيف الذي دمّر العاصمة السودانية وأدخل البلاد في حالة من الفوضى، انسحبت ميليشيا قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) من الخرطوم، في خطوة اعتبرها البعض نقطة تحول في الصراع، بينما رأى آخرون أنها مجرد إعادة تموضع تكتيكي. فهل يعني هذا التطور أن السودان بدأ يخرج من عنق الزجاجة، أم أن الأزمة لا تزال مفتوحة على سيناريوهات أكثر تعقيدًا؟
انسحاب تكتيكي أم هزيمة؟
جاء انسحاب ميليشيا الدعم السريع من الخرطوم بعد أشهر من القتال العنيف مع القوات المسلحة السودانية، التي تمكنت خلال الأسابيع الأخيرة من تحقيق تقدم ملحوظ على عدة جبهات، مستعيدة مواقع استراتيجية مثل القيادة العامة والأحياء الحكومية. وعلى الرغم من أن الدعم السريع لم يعلن رسميًا عن هزيمته، فإن التراجع المفاجئ للقوات أثار تساؤلات حول مدى قدرتها على مواصلة المعركة بنفس الوتيرة، خصوصًا بعد الضغوط العسكرية والاقتصادية التي تعرضت لها.
يقول الخبير العسكري اللواء المتقاعد الصادق يوسف: “هذا الانسحاب لم يكن طوعيًا، بل جاء نتيجة الاستنزاف الكبير الذي تعرضت له قوات الدعم السريع. خسرت الميليشيا مواقع حيوية في الخرطوم، وفقدت جزءًا كبيرًا من قدرتها على إدارة العمليات اللوجستية داخل العاصمة، مما أجبرها على إعادة الانتشار خارجها”.
الخرطوم تحت سيطرة الجيش.. لكن بأي ثمن؟
خروج الميليشيا من الخرطوم لم يكن دون تكلفة. فالعاصمة السودانية تعاني من دمار هائل في بنيتها التحتية، ويفتقر السكان إلى أبسط مقومات الحياة، مثل المياه والكهرباء والخدمات الصحية. وعلى الرغم من استعادة القوات المسلحة للسيطرة، إلا أن إعادة إعمار الخرطوم وتأمينها تظل تحديًا هائلًا، لا سيما في ظل استمرار التهديدات الأمنية ووجود عناصر الدعم السريع في مناطق أخرى مثل دارفور وجنوب كردفان.
وفي هذا السياق، يرى المحلل السياسي عبد الرحمن الحاج أن “استعادة الجيش للخرطوم لا تعني نهاية الأزمة، بل هي بداية لمعركة جديدة تتعلق بإعادة فرض سلطة الدولة وتأمين العاصمة من أي محاولات تسلل جديدة لقوات الدعم السريع، بالإضافة إلى التحديات المتعلقة بتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين”.
المشهد الميداني.. إلى أين تتجه المعارك؟
بعد الانسحاب من الخرطوم، تركزت تحركات الدعم السريع في غرب السودان، وتحديدًا في دارفور، حيث لا تزال الميليشيا تملك نفوذًا واسعًا. وبحسب تقارير ميدانية، فإن مقاتلي حميدتي يسعون إلى تعزيز مواقعهم في هذه المناطق، مما قد يفتح الباب أمام سيناريو تقسيم فعلي للبلاد بين مناطق خاضعة لسيطرة الجيش وأخرى تخضع لنفوذ الدعم السريع.
وفي المقابل، يواصل الجيش السوداني عملياته العسكرية، محاولًا توسيع نطاق سيطرته، لكنه يواجه تحديات كبيرة بسبب الطبيعة الجغرافية الوعرة في بعض المناطق، بالإضافة إلى احتمالية حصول الدعم السريع على دعم خارجي يمكن أن يطيل أمد الصراع.
السيناريوهات المحتملة.. هل اقترب الحل؟
مع تراجع حدة القتال في الخرطوم، يتساءل المراقبون عمّا إذا كان السودان مقبلًا على مرحلة جديدة من الاستقرار، أم أن الصراع سيأخذ أشكالًا أخرى. هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
-
إحكام الجيش السيطرة واستعادة الأمن: إذا تمكنت القوات المسلحة من فرض سيطرتها الكاملة على البلاد وإنهاء وجود الدعم السريع في دارفور ومناطق أخرى، فقد يكون السودان على طريق استعادة الدولة، لكن هذا يتطلب جهودًا سياسية وعسكرية ضخمة.
-
استمرار المواجهات في مناطق أخرى: رغم خسارتها للعاصمة، لا تزال قوات حميدتي قادرة على القتال، وقد تلجأ إلى تكتيك “حرب العصابات”، مما قد يطيل أمد الصراع ويدفع البلاد نحو مزيد من التقسيم الفعلي.
-
التدخل الدولي والتفاوض: مع تصاعد الأزمة الإنسانية، قد تتزايد الضغوط الدولية على الطرفين للدخول في مفاوضات جديدة، خصوصًا أن السودان بات مهددًا بانهيار اقتصادي شامل ونزوح جماعي قد يؤثر على استقرار دول الجوار.
السودان في مرحلة مفصلية
رغم أن انسحاب قوات الدعم السريع من الخرطوم يمثل تحولًا مهمًا في مسار الصراع، إلا أن السودان لا يزال بعيدًا عن تحقيق الاستقرار الفعلي. فالأضرار التي لحقت بالبنية التحتية، والانهيار الاقتصادي المتفاقم، واستمرار التهديدات الأمنية، كلها عوامل تجعل من عودة الحياة الطبيعية تحديًا معقدًا. وفي حين أن الجيش السوداني نجح في استعادة العاصمة، فإن المعركة الأكبر تكمن في إعادة بناء مؤسسات الدولة، واستعادة الأمن في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة الميليشيات، ومنع تحول النزاع إلى حرب استنزاف طويلة. السودان الآن في مرحلة مفصلية، فإما أن ينجح في إعادة ترتيب أوضاعه، أو أن يستمر في دوامة الفوضى التي عطّلت استقراره لعقود.