رغم مرور شهور على بدء المفاوضات غير المباشرة برعاية إقليمية ودولية بين حركة “حماس” وإسرائيل، فإن الحركة لم تُظهر حتى وقت قريب مرونة كافية تسمح بتقدم فعلي نحو وقف إطلاق نار دائم يُنهي معاناة سكان قطاع غزة. ويبدو أن حماس، التي تكرر حديثها عن “التعنت الإسرائيلي”، تتجاهل عمداً مسؤوليتها المباشرة عن حالة الجمود في المفاوضات، حيث ظلت تماطل وتراهن على متغيرات إقليمية ودولية، وتوظف ملف الرهائن كورقة ضغط سياسية دون اعتبار للواقع الإنساني المتدهور في القطاع.
مرونة متأخرة
إن إعلان الحركة عن موافقتها على إطلاق سراح 10 رهائن الآن، بعد أشهر من التعطيل، يشي بتحول في الموقف التفاوضي لحماس، لكنه في ذات الوقت يطرح تساؤلات عميقة: لماذا تأخرت هذه الخطوة؟ ولماذا لم تبادر بها منذ أسابيع حين كان الشارع الغزي يئن تحت وطأة القصف، والمساعدات شحيحة، والمخيمات تعج بالنازحين؟
التحول المفاجئ في خطاب حماس يمكن قراءته على أنه اعتراف ضمني بضعف الموقف التفاوضي الذي وجدت نفسها فيه. فبينما كانت تُصرّ على حزمة شروط في آنٍ واحد، من ضمنها وقف إطلاق نار دائم، وانسحاب كامل للقوات الإسرائيلية، وضمانات دولية، وممرات إنسانية، باتت اليوم تقبل بإجراءات جزئية، على رأسها الإفراج عن عدد محدود من الرهائن. هذه المرونة المتأخرة تُظهر أن الحركة بدأت تدرك أنها ليست في موقع يسمح بفرض شروطها، خاصة مع تزايد الضغط الداخلي في غزة، وضيق هامش المناورة أمام الوسطاء.
رفض حماس حلول انتقالية
والأهم من ذلك، أن خطوة إطلاق سراح 10 رهائن لا تأتي في سياق مبادرة من حماس لتخفيف الأزمة، بل كرد فعل على واقع سياسي وعسكري متغير، تُرغَم فيه على التنازل المحدود تحت ضغط الحاجة، لا عن قناعة. لقد استنزفت الحركة وقتاً طويلاً في مفاوضات عبثية، واستنزفت في الوقت نفسه ما تبقى من قدرة القطاع على الصمود، ما يجعل أي تنازل الآن يبدو بمثابة “خطوة اضطرار” لا مكسباً سياسياً.
أما تمسك إسرائيل ببقاء قواتها في ممرات حدودية خلال هدنة محتملة، وإن كان مرفوضاً فلسطينياً ومصرياً، إلا أنه ليس مفاجئاً في سياق حسابات الأمن الإسرائيلي. المشكلة الحقيقية أن حماس ظلت ترفض الدخول في تفاصيل الحلول الانتقالية، وراوغت في ملف الرهائن، وأهدرت فرصاً عديدة كان من الممكن خلالها إنقاذ آلاف الأرواح، سواء من المدنيين في غزة أو من الرهائن في قبضة الحركة.
وفي الوقت الذي تتحدث فيه الحركة عن “ضمانات حقيقية” لوقف دائم لإطلاق النار، فإنها لا تقدّم حتى الآن تصوراً عملياً لكيفية تنفيذ هذه الضمانات، ولا تُظهر استعداداً حقيقياً للدخول في اتفاق مرحلي يمكن البناء عليه. فبدلاً من تبني سياسة الخطوة مقابل الخطوة، ظلت حماس تتمسك بمعادلات قصوى، دون أن تملك أدوات تحقيقها.
غياب الواقعية السياسية لدى قيادة حماس
بالتالي، فإن إطلاق سراح 10 رهائن لا يُعتبر تطوراً إيجابياً بقدر ما يكشف عن حجم التراجع في موقف حماس، وتأكيداً على أن التعطيل السابق لم يكن سببه فقط “تعنت الاحتلال”، بل أيضاً غياب الواقعية السياسية لدى قيادة الحركة. إن التردد في اتخاذ قرارات حاسمة، واحتكار القرار داخل الحلقة العسكرية، وتقديم الحسابات التنظيمية على أولويات الشعب الفلسطيني، كلها عوامل أدّت إلى إطالة أمد الحرب، وتعقيد المشهد التفاوضي.
ما كان يمكن أن يُمنح في نوفمبر، أصبح يُنتزع في يوليو، بعد شهور من الدمار والخذلان. وحماس، وهي تعلن موافقتها المتأخرة على خطوات جزئية، تعطي انطباعاً بأنها بدأت تخرج من حالة المكابرة، لكنها تدفع ثمناً باهظاً لتأخرها، ثمناً لا تدفعه هي وحدها، بل يدفعه معها شعب محاصر يعيش يومياً بين الموت والدمار.