في إحدى صباحات ديسمبر الباردة، استيقظ الحاج أبو رامي كعادته، قبل شروق الشمس بقليل، وهو يحمل سلة قهوته ويديه المتشققتين من العمل في الأرض. أمضى أربعين عامًا وهو يزرع العنب والزيتون في أرضه الممتدة شرقي بلدة الظاهرية جنوب الخليل. أرضه كانت أكثر من مجرد مصدر رزق؛ كانت روحه، ذاكرته، وجذوره في هذه الحياة. هناك، تحت كل شجرة، قصة من طفولته أو دعاء من والدته أو ضحكة من أولاده.
لكن ذلك الصباح لم يكن عاديًا. لم يلمح أيًّا من طيوره التي اعتادت أن تسبقه في الغناء، ولم يرقص شعاع الشمس على أوراق العنب كما اعتاد. كان هناك صوت مختلف يعلو، صوت جرار زراعي يخترق الأرض بلا رحمة. اقترب أبو رامي ليجد مستوطنًا، لا يعرفه، يحرث أرضه، كأنها له، كأن عشرات السنوات التي قضاها يرويها بعرقه لم تكن شيئًا.
القانون لا يقف مع الحق
صرخ، نادى، ركض، لكن لم يكن هناك من يسمع. حاول أن يتحدث إلى الجنود الذين حضروا بعد دقائق، لكنه وجدهم يطلبون منه المغادرة فورًا. “هاي مش أرضك”، قالها أحد الجنود بوقاحة. لم يكن يعرف أبو رامي أن القانون لا يقف مع الحق إن كان صاحبه فلسطينيًا، وأن ما استُولي عليه بأوامر عسكرية قد يتحوّل لمزارع عنب استيطانية في غضون أشهر، تُروى بماء الضفة، وتُصدَّر للعالم على أنها “منتجات إسرائيلية عالية الجودة”.
عاد إلى بيته مكسورًا. جلس تحت شجرة زيتون قديمة قرب المدخل، وتذكر كيف زرعها في ربيع عام 1986. يومها كانت زوجته حاملًا بأول أبنائه. كانت الشجرة وولده يكبران معًا، حتى أصبحت ظلّه عندما يتعب من الحر، ومصدر زيتٍ يُقسم على الجيران في كل موسم.
مصادرة الأراضي بالقوة
لكنها اليوم محروقة. لم تسلم الشجرة من النار التي أطلقها مستوطن آخر قبل أسابيع. اقتلعوا الزيتون، وسرقوا الثمار، حتى أن بئر الماء المجاور سُدّت بالحجارة، والطريق الترابي الذي كان يسلكه كل صباح تم تجريفه.
ليست قصة أبو رامي استثناءً. في بيت لحم، اقتلعوا الكروم. في نابلس، سرقوا محاصيل الزيتون قبل أن تُقطف. في أريحا، صادروا الأراضي لتوسيع مزارع التمور الخاصة بالمستوطنين. المزارع الفلسطيني لم يعد فقط بلا أرض، بل بلا أمل. كل صباح، يخرج من بيته وهو لا يعرف إن كان سيُسمح له بدخول حقله، أو يُعتدى عليه، أو يعود ليجد أشجاره مدفونة تحت الإسفلت الجديد لمستوطنة تزحف كالأفعى.
في غزة، كانت القصة أكثر بشاعة. لم يكتف الاحتلال بمنع المزارعين من زراعة أرضهم، بل دمّر كل ما أنجزوه خلال عقود. آلاف الدونمات، مزارع دواجن وأبقار، آبار مياه، بيوت بلاستيكية، معاصر زيتون، حتى الحظائر دُمّرت. الأرض لم تعد تنبت، والمزارع لم يعد يزرع، لا لأن الأرض بخلت، بل لأن الحرب أفقدتها الحياة.
شعب يُنتزع من أرضه
الحكاية اليوم ليست فقط عن مزارعين خسروا رزقهم، بل عن شعب يُنتزع من أرضه انتزاعًا. عن زيتونة بلا فلاح، وعن يدٍ خضراء أُجبرت على أن تستجدي خبزها بعدما كانت تطعم الوطن. عن موسم قمح لم يُحصد، وعنبٍ لم يُعصر، وزيتٍ لم يُسكب في الأواني لأنه صودر أو احترق.
ومع كل ذلك، لا يزال أبو رامي يحتفظ بمفتاح كوخه الصغير الذي كان يستخدمه ليستريح في منتصف النهار بين أشجار العنب. “الزيتونة إذا قُطعت، بترجع تطلع… وأنا راجع. لو على عصاي”.