تشير أحدث بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن فلسطين تعيش واحدة من أعمق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في تاريخها المعاصر، نتيجة العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة والانتهاكات الواسعة في الضفة الغربية. هذه الأزمة تجاوزت نطاق الأرقام والنسب، لتترجم نفسها في واقع معيش يومي مأساوي لمئات الآلاف من الأسر، التي أصبحت فجأة بلا مصدر رزق، في ظل غياب الأمن، وشلل الحركة، وانهيار الاقتصاد المحلي.
الارتفاع الصادم في معدلات البطالة في قطاع غزة، والذي وصل إلى نحو 68% في الربع الرابع من عام 2024، يعكس حجم الكارثة. هذه النسبة لا تمثل فقط العجز عن إيجاد عمل، بل تمثل انسداد الأفق وانعدام الأمل. فالاقتصاد الغزي، الذي كان هشًا حتى قبل الحرب، دُمر بالكامل بفعل القصف المتواصل، وتدمير المصانع، وغياب المواد الخام، وانهيار سلاسل التوريد.
قصص من رحم المعاناة
قصة أحمد، 34 عامًا، من حي الشجاعية في غزة، واحدة من آلاف القصص التي تختصر هذا الواقع. أحمد كان يعمل في مطبعة صغيرة توظف 12 شخصًا، وقد دُمّرت خلال الغارات الإسرائيلية في نوفمبر الماضي. لم يتبقَّ له من عمله شيء، سوى ذكريات آلة الطباعة، ورائحة الورق. يقول: “منذ القصف، لم أجد عملًا. بحثت في كل مكان. ابني مريض ولا أملك حتى ثمن الدواء. أنا لا أبحث عن المال الآن، أبحث عن فرصة للكرامة”.
وفي الضفة الغربية، التي تشهد تضييقًا شديدًا بعد 7 أكتوبر 2023، لم تكن الصورة أفضل بكثير. فقد قفزت البطالة من 18% في عام 2023 إلى أكثر من 31% في عام 2024. أغلب المتضررين هم من فئة الشباب، التي أصبحت بنسبة 74% خارج دائرة التعليم والتدريب والعمل، وهي نسبة كارثية بكل المعايير.
ريم، 28 عامًا، من مدينة طولكرم، تخرجت من كلية الإعلام قبل عامين، وعملت مؤقتًا في مؤسسة محلية، لكن تم إنهاء خدماتها بسبب توقف التمويل. ومع منع العمال من دخول أراضي الـ48، تقلّصت فرص العمل، حتى في الوظائف الميدانية التي كانت تشغلها النساء. تقول: “أقدّم على وظائف بشكل يومي، لكن لا أحد يرد. أشعر أن مستقبلي مجمّد، كما لو أني لا أعيش في زمن يتحرك”.
ارتفاع البطالة وضياع حقوق العمال
من جهة أخرى، أظهر التقرير تراجعًا كبيرًا في عدد العاملين داخل أراضي الـ48، حيث انخفض عدد العمال من الضفة من 107 آلاف في 2023 إلى 21 ألفًا فقط في 2024. هذا التراجع لم يكن مجرد رقم اقتصادي، بل كارثة لعشرات آلاف الأسر التي كانت تعتمد على هذا الدخل كوسيلة للبقاء.
في الداخل، الاقتصاد المحلي في الضفة الغربية يتداعى أيضًا، مع انخفاض عدد العاملين في قطاعات حساسة مثل البناء والتشييد، والتجارة، والخدمات. القطاع الخاص، رغم أنه ما يزال المشغل الرئيسي (65% من المستخدمين بأجر)، إلا أنه لم يعد قادرًا على تقديم الحد الأدنى من حقوق العمال، حيث أن أكثر من نصفهم لا يحصلون على حقوقهم القانونية، ولا يملكون حتى عقود عمل دائمة.
العمالة غير المنظمة أصبحت هي القاعدة، وليست الاستثناء. أكثر من 60% من المستخدمين بأجر لا يملكون أي حماية قانونية. هذا الوضع يجعل العمال في مهب الريح، معرضين للفصل المفاجئ، أو الاستغلال، دون إمكانية حقيقية للشكوى أو المطالبة بالحقوق.
كريم، عامل بناء من نابلس، فقد عمله بعد منع مواد البناء من الدخول، وتوقف المشاريع الخاصة. يعيل أسرته المكونة من سبعة أفراد، ويقول: “أذهب كل صباح إلى الدوار الرئيسي، أبحث عن عمل، أي عمل، ولو ليوم واحد. لكن الوضع ميّت… لا بناء، ولا مشاريع، ولا حتى الناس قادرة تبني بيتًا أو تصبّ أرضية”.
إعادة إعمار شامل
وسط هذا المشهد القاتم، تبدو الحلول بعيدة المنال، فالمعركة لم تعد فقط مع البطالة، بل مع نظام اقتصادي منهار، وحرب مفتوحة على كل مقومات الحياة الكريمة. الاستجابة الدولية ما تزال خجولة، والمساعدات الطارئة لا تعوّض فقدان الاستقرار طويل الأمد.
ما يحتاجه الفلسطينيون اليوم ليس فقط المساعدات الإنسانية، بل إعادة إعمار شامل للاقتصاد الفلسطيني، ورفع القيود الاحتلالية، وضمان حرية الحركة والانتقال والعمل. من دون ذلك، فإن أجيالًا كاملة مهددة بالضياع، ليس فقط في غزة، بل في الضفة أيضًا.