الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة لا تقتصر على آثارها العسكرية والسياسية، بل تنسحب بعمق على الواقع الاقتصادي داخل إسرائيل، محدثة ارتدادات قد تمتد لسنوات. ومع مرور الوقت، تتكشف أبعاد هذه التداعيات بشكل أوضح، حيث يُطرح السؤال الجوهري: هل تستطيع حكومة الاحتلال مواصلة هذه الحرب دون انهيار داخلي اقتصادي يمس صلب الحياة اليومية للمجتمع الإسرائيلي؟
انهيار التوازن المالي في إسرائيل
منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، سجّلت مخصصات وزارة الدفاع قفزة غير مسبوقة، ما أدى إلى توسع كبير في العجز المالي الذي بلغ 6.9% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024، متجاوزاً بكثير الأطر المعتادة في إسرائيل. هذا التوسع ترافق مع زيادة حادة في معدل الدين العام، الذي ارتفع بنسبة 7.7 نقاط مئوية خلال عام واحد، ليصل إلى 69% من الناتج المحلي. هذه الأرقام تعكس ليس فقط حجم الموارد التي تستهلكها الحرب، بل أيضاً طبيعة التوجهات السياسية التي باتت تضع “الأمن” فوق كل اعتبار، حتى على حساب القطاعات الحيوية الأخرى.
التحذير الذي أطلقه المحاسب العام في وزارة المالية، يالي روثنبرج، لم يكن مجرد تصريح تقني، بل يحمل دلالة سياسية واقتصادية عميقة. فحين يتحدث أحد أعلى الأصوات المهنية داخل الحكومة عن ضرورة تقليص العجز ووضع حدود للإنفاق الدفاعي، فهو يعبر عن قلق داخلي حقيقي من انهيار التوازن المالي للدولة. ويرى روثنبرج أن عام 2026 سيكون مفصلياً، وكأنه يلمّح إلى “نقطة اللاعودة” التي قد تصل إليها الدولة إن استمرت في هذا المسار التصادمي بين الإنفاق العسكري والاحتياجات الاجتماعية.
تأثير حرب غزة على القطاعات الحيوية في إسرائيل
الحرب لا تستهلك فقط الميزانية، بل تعيد تشكيل أولويات الإنفاق داخل الحكومة الإسرائيلية. فالموازنة الجديدة لعام 2025، التي تأخر إقرارها حتى مارس الماضي، تتضمن زيادات ضريبية ملموسة على المواطنين، إلى جانب تقليصات كبيرة في قطاعات حيوية كالصحة والتعليم والبنية التحتية. وهذا التحول ليس بسيطاً، بل هو بمثابة إعادة صياغة للعقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها، حيث باتت الدولة تطلب من المجتمع المدني أن يتحمل أعباء حرب لا يشارك فيها إلا بصورة غير مباشرة.
ما يجعل الوضع أكثر تعقيداً هو أن هذه الحرب ليست قصيرة الأمد أو محدودة الأفق، بل تبدو طويلة ومفتوحة، وترافقها حالة من عدم اليقين الأمني والسياسي. هذا يجعل من أي تخطيط مالي عملية محفوفة بالمخاطر، ويحد من قدرة الحكومة على اتخاذ قرارات استراتيجية طويلة الأجل.
القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة، التي كانت تعاني من تحديات مسبقة، باتت اليوم مهددة بالانكماش أكثر. في نظام مثل إسرائيل، حيث تُشكّل هذه القطاعات ركائز الاستقرار الداخلي، فإن أي تدهور فيها قد يؤدي إلى تفاقم الفجوة الاجتماعية، وزيادة الاحتجاجات الداخلية، خاصة في ظل التفاوت القائم بين الطبقات.
استنزاف جيوب الإسرائيليين
تبدو إسرائيل اليوم عالقة بين معادلتين متناقضتين: الحاجة إلى تمويل حرب مكلفة وطويلة، والرغبة في الحفاظ على تماسك المجتمع واقتصاد الدولة. ومع غياب رؤية سياسية تنهي النزاع، فإن الاقتصاد الإسرائيلي مرشّح لمزيد من الضغط والتآكل من الداخل، ما يجعل “الحيز المالي” الذي تحدّث عنه روثنبرج، ليس فقط مسألة حسابية، بل مسألة بقاء دولة تحت ضغط خياراتها العسكرية.
بهذا الشكل، فإن ما بدأ كصراع جغرافي سياسي، أصبح حرب استنزاف لا تقتصر على الجبهات بل امتدت إلى جيوب الإسرائيليين، ومستقبل أجيالهم، والقطاعات التي تُبقي المجتمعات حية ومتوازنة.