في حي البستان ببلدة سلوان، جنوب المسجد الأقصى، لا تزال أماني عودة تنظر إلى المكان الذي كان يوماً بيتها. بيت صغير، يضج بالحياة، يضم أربعة أفراد كانت تملأ ضحكاتهم أركانه. في صباح الأربعاء، دخلت الجرافات الإسرائيلية الحي، سبقتها قوات مدججة بالسلاح، حاصرت المنزل، ومنعت الجيران من الاقتراب. لم يكن الهدم مجرد إجراء إداري، بل كان اقتلاعاً حياً لذاكرة عائلة، تمزيقاً قاسياً لجدران احتضنت الحكايات والآمال.
اقتحام المنازل والتعدي على الأطفال
أماني حاولت التفاوض، توسّلت، بكت وهي تشير إلى أطفالها، لكن الجنود لم يستجيبوا. لحظات، وتحولت الغرفة التي كانت تطهو فيها الطعام، إلى كومة من الركام، تتصاعد منها غبار الوجع أكثر من غبار الحجارة. أحد الجنود دفع ابنها بعيداً عندما حاول إنقاذ لعبته الصغيرة من تحت الأنقاض، فانهار الطفل باكياً وسط صدمة عجزت الكلمات عن وصفها.
غير بعيد عنهم، في نفس الحي، راشد القيمري وقف مذهولاً أمام منزله المُهدَّم، 40 متراً فقط، لكنه كان ملاذاً لخمسة أفراد. الآن لا مأوى، لا خصوصية، لا مكان يلوذون به في وجه الشتاء أو الحرّ. البيت الذي بناه حجراً فوق حجر على مدار سنوات، بعرق كرامته، أصبح تراباً. ليس لسبب إلا لأن “البلدية” الإسرائيلية قررت أن الأرض يجب أن تتحول إلى “حديقة توراتية”، في واحدة من أكثر صور التطهير العرقي تهذيباً في المصطلح، ووقاحة في الفعل.
نهب ممتلكات المواطنين
في الضفة الغربية، وتحديداً في طوباس وجنين وأريحا وسلواد، يتكرر المشهد كل يوم، بنسخ مختلفة ولكن بمأساة واحدة. في أريحا، طفل لا يتجاوز 13 عاماً أصيب برصاصة في قدمه بينما كان يحاول الهرب من اقتحام في حارة العرب. كان في طريقه إلى البقالة ليشتري الخبز، فعاد وهو محمول على الأكتاف، غارقاً في دمائه. ضياع الطفولة في الضفة لا يأتي فقط من الحرمان، بل من لحظة التحوّل السريع من البراءة إلى الألم، من الدراجة الصغيرة إلى كرسي متحرك.
في قباطية، البلدة التي تُقصف بنيتها التحتية بشكل متكرر، حيث الكهرباء تقطع لساعات طويلة، والماء لا يصل إلا على فترات، لا تنتهي القصص. هناك، أمّ فقدت ثلاثة من أولادها في عمليات اقتحام متفرقة، تقول إنها لم تعد تملك سوى ثوب واحد وأحذية مستعملة، بعد أن نُهبت كل ممتلكاتها خلال مداهمات ليلية. العائلات هناك تحوّلت إلى أهداف معلقة على جدار الخوف، تعيش على نبض المجهول وتحت سقف التهديد.
هجوم المستوطنين
وفي نابلس، في قرية اللبن الشرقية، المدارس باتت محاصرة بأعلام المستوطنين، والطالبات يُمنعن من الوصول لقاعات الامتحان لأن الطريق مغلق بطقوس “السجود الملحمي” لمستوطنين يرقصون ويهددون الناس بالحجارة والشتائم. التعليم في هذه الظروف لم يعد مسألة حق، بل مسألة مقاومة يومية للحفاظ على كرامة العقل وسط حصار الجهل.
أما القدس، فالمأساة تتضاعف مع كل قرار هدم جديد. هناك بيوت قائمة منذ عقود تُهدم دون رحمة، في الوقت الذي تُبنى فيه مستوطنات جديدة في وضح النهار، دون رخص أو خوف. المدينة المقدسة تُفرغ تدريجياً من سكانها الأصليين، ويُدفع بهم إلى هوامش الحياة، عبر قرارات محاكم صورية، وجرافات لا تعرف الرحمة، وعالم يراقب بصمت.
البيوت المهدمة في الضفة ليست مجرد أحجار، بل شهادات حياة. كل باب يُخلع، كل نافذة تتحطم، كل غرفة تُسوى بالأرض، تعني قصة انتهت قبل أوانها. ومع كل هدم، تزداد المعاناة، ويصبح الشتات أكبر، والكرامة الفلسطينية أكثر صلابة رغم كل الألم.