استهداف الصحفيين في غزة، كما حدث في ساحة المستشفى المعمداني، لم يعد مجرد “أضرار جانبية” في سياق حرب مفتوحة، بل أصبح يبدو وكأنه سياسة مدروسة ضمن أدوات الحرب النفسية والعسكرية التي تستخدمها إسرائيل. الصحفيون في مناطق النزاع هم عيون العالم، ومن خلالهم تُنقل الحقيقة، وتُوثق الجرائم، وتُكسر الرواية الرسمية التي تحاول إسرائيل ترسيخها عبر منصاتها الإعلامية والدبلوماسية. لهذا، يصبح استهدافهم وسيلة لإسكات هذا الصوت، وتعتيم الصورة أمام الرأي العام العالمي.
إرهاب الإعلام الفلسطيني
عندما تُستهدف مواقع مثل ساحة مستشفى، حيث يجتمع الصحفيون لنقل الأحداث، فإن الرسالة واضحة: لا مكان آمناً لأحد، حتى أولئك الذين لا يحملون سلاحاً، بل كاميرات وأقلاماً. أسماء مثل سليمان حجاج، إسماعيل بدح، سمير الرفاعي، وأحمد قلجة لم يكونوا سوى ناقلين للحدث، لكنهم دفعوا حياتهم ثمناً للحقيقة. هذا النمط من الاستهداف المتكرر لا يُمكن تبريره بوجود “أهداف عسكرية”، خصوصاً في أماكن واضحة مثل مستشفيات أو مراكز إعلامية، ويكشف عن منهجية لإرهاب الإعلام الفلسطيني وتفكيك بنيته.
إسرائيل، خلال هذه الحرب، استهدفت عشرات الصحفيين. ووفقاً لتقارير منظمات دولية، تجاوز عدد شهداء الصحافة في غزة منذ بدء الحرب أكثر من 140 صحفياً، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ النزاعات الحديثة. هذا الاستهداف، إلى جانب تدمير المؤسسات الإعلامية، يُعيد إنتاج واقع إعلامي مشلول داخل غزة، ويمنح لإسرائيل تفوقاً في سرديتها الدولية.
محاسبة إسرائيل
الإجراءات المتاحة حاليًا لمحاسبة إسرائيل على هذه الجرائم لا تزال محدودة، بسبب الحصانة السياسية التي توفرها قوى كبرى كأميركا، والتي غالبًا ما تُفشل أي محاولات للمحاسبة في مجلس الأمن أو عبر المحاكم الدولية. لكن هذا لا يعني أن لا أدوات قانونية يمكن تحريكها. فهناك مسارات متعددة يمكن السعي نحوها:
توثيق شامل ومنهجي للجرائم، بإشراف منظمات دولية مثل “مراسلون بلا حدود” و”لجنة حماية الصحفيين”.
تقديم دعاوى فردية وجماعية للمحكمة الجنائية الدولية، خاصة أن استهداف الصحفيين يُصنّف كجريمة حرب بموجب القانون الدولي.
فرض عقوبات رمزية من قبل بعض الدول أو المؤسسات الإعلامية العالمية، مثل مقاطعة الأحداث الرسمية التي تنظمها إسرائيل، أو حجب مشاركاتها في المنتديات الإعلامية.
حملات ضغط شعبي وإعلامي لدفع الحكومات الغربية، وخاصة الأوروبية، لإعادة النظر في دعمها غير المشروط لإسرائيل، على الأقل في الجانب المتعلق بحقوق الإنسان.
قتل الشهادة الحية
لكن الأهم من أي إجراء هو أن تبقى الرواية حية. فكل صحفي يُقتل هو صوت كان يحكي، ومع كل اغتيال هناك محاولة لقتل الشهادة الحية. لذلك، فإن مسؤولية الإعلام العربي والدولي اليوم هي مواصلة التوثيق وكسر الحصار المعنوي الذي تسعى إسرائيل لفرضه على غزة، ليس فقط بالسلاح، بل بالصمت القسري.