تشهد الضفة الغربية المحتلة، وتحديدًا مخيم بلاطة شرق نابلس، تصعيدًا ميدانيًا لافتًا يعكس منهجية العقاب الجماعي التي ينتهجها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، بالتوازي مع التصعيد العسكري الواسع ضد إيران. ففي الوقت الذي تنشغل فيه الدوائر السياسية والعسكرية الإسرائيلية في إدارة حرب مفتوحة في الإقليم، تُترجم تداعيات تلك المواجهة داخليًا بمزيد من البطش والانتهاك للحقوق الأساسية للفلسطينيين، خصوصًا في المخيمات التي تعاني أصلًا من أوضاع إنسانية هشة.
تحويل منازل المدنيين إلى ثكنات عسكرية
الاقتحام الجديد لمخيم بلاطة لا يبدو حادثًا منفصلًا أو طارئًا، بل هو امتداد لسياسات الترويع والضغط المستمر على المناطق ذات الكثافة السكانية الفلسطينية، والتي طالما اعتُبرت هدفًا مفضّلاً للجيش الإسرائيلي ضمن ما يُعرف بإستراتيجية “الاختراق المتكرر”. لكن في هذه الجولة، تجاوز الأمر حدود المداهمات والاعتقالات إلى تحويل منازل المدنيين إلى ثكنات عسكرية بعد طرد سكانها، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، الذي يحرّم تحويل الممتلكات المدنية إلى أهداف عسكرية.
في مشهد كهذا، لا تقتصر المعاناة اليومية في مخيم بلاطة على ساعات الاقتحام أو صوت الرصاص فجرًا، بل تمتد إلى حياة تفتقد الحد الأدنى من الأمان، حيث يتحول الوجود العسكري إلى شكل دائم، ويغدو الأطفال والنساء محاطين بخطر القنص أو الاعتقال أو حتى الطرد القسري. ويزيد من حدة المشهد الانقطاع المتكرر للكهرباء والمياه، وإغلاق الطرق، وانتشار الحواجز التي تعزل المخيم عن محيطه.
اغتيال الشاب معتز الحجاجلة
على مستوى أوسع، تعكس هذه الممارسات واقعًا يوميًا في الضفة الغربية، التي ترزح منذ خمسة أيام تحت حصار شبه شامل، فرضه الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء العدوان على إيران. هذا الحصار لم يأت فقط كردّ أمني على التصعيد الإقليمي، بل بوصفه امتدادًا لحالة الطوارئ غير المعلنة التي تسمح بمزيد من الاعتقالات، وفرض القيود على الحركة، وإغلاق المدن والقرى، خاصة في مواقع ذات رمزية نضالية.
اغتيال الشاب معتز الحجاجلة في بلدة الولجة غرب بيت لحم هو نموذج آخر لهذه الممارسات. فإعدامه الميداني بعد اعتقاله، ثم احتجاز جثمانه، يمثل استخفافًا صارخًا بالمعايير الحقوقية والإنسانية، ويعكس نزعة العقاب والإذلال التي يعتمدها الاحتلال. وهو أيضاً امتداد لسياسة احتجاز الجثامين، التي تحرم العائلات من دفن أبنائها في طقس يحترم حرمة الموت.
كما تشهد مناطق أخرى من الضفة، مثل قلقيلية، وبيرزيت، والخليل، اقتحامات متزامنة تنفذها وحدات عسكرية مدججة بالسلاح، وتُرافق غالبًا بحملات دهم واعتقالات عشوائية تطال شبانًا وحتى قاصرين، ضمن سياسة تُغذّي الانفجار الشعبي، وتعمّق من أزمة الثقة بالمنظومة الدولية التي تقف عاجزة عن التدخل أو حتى الإدانة.
كسر الإرادة الفلسطينية
هذه السياسات الميدانية، وعلى رأسها تحويل منازل المدنيين إلى ثكنات، لا يمكن فهمها خارج سياق أوسع من التحولات داخل المؤسسة الإسرائيلية نفسها، التي تجد في الأزمات الخارجية فرصة لتوسيع قبضتها على الداخل الفلسطيني المحتل. ومخيم بلاطة، الذي يعتبر من أكثر المناطق اكتظاظًا وحرمانًا في الضفة، يغدو بذلك ساحة اختبار لهذه القبضة، وساحة صراع يومي يخوضه السكان العُزّل دفاعًا عن حياتهم وبيوتهم.
المعاناة اليومية في الضفة الغربية لم تعد مجرد تفصيل هامشي في صراع أكبر، بل أصبحت تمثل وجهًا آخر للسياسات الاستيطانية والعسكرية التي تسعى إلى كسر الإرادة الفلسطينية. وهي معاناة تتجدد مع كل طلعة شمس، حيث لا أفق آمن، ولا ضمانة قانونية، ولا مؤسسات قادرة على حماية المدنيين في وجه آلة عسكرية تمضي بلا مساءلة.