تصاعدت في الضفة الغربية وتيرة العنف الإسرائيلي بشكل مقلق، في ظل استمرار الاقتحامات الليلية وهجمات المستوطنين، ما يضيف فصلاً جديدًا إلى معاناة الفلسطينيين اليومية في هذه البقعة التي تعيش على إيقاع احتلال متعدد الأوجه، حيث تتقاطع آلة القمع العسكرية مع تغول الاستيطان، وتنتج واقعًا من الإرهاب المنظم الذي بات يستهدف كل ما هو فلسطيني: الإنسان، والأرض، والمجتمع.
إخضاع الجغرافيا الفلسطينية للعنف والسيطرة
ما يجري في الضفة لا يمكن النظر إليه كجزء منفصل عن العدوان الشامل على غزة، بل هو امتداد مباشر له، يعكس استراتيجية إسرائيلية واضحة تقوم على إخضاع كل الجغرافيا الفلسطينية لحالة دائمة من العنف والسيطرة. ففي كل ليلة تقريبًا، تنفذ قوات الاحتلال اقتحامات لمدن وبلدات ومخيمات، تُنصب الحواجز وتُقتحم المنازل وتُروَّع العائلات، ويُعتقل الشبان أو يُصابون، كما حدث في بلدة عنزة جنوب جنين، حيث أُصيب فتى يبلغ من العمر 17 عامًا برصاص حي في صدره خلال مواجهات أعقبت اقتحامًا إسرائيليًا للبلدة، وسط نشر القناصة والآليات العسكرية في الشوارع. الإصابة التي وُصفت بالخطيرة، ليست استثناءً بل تعبير يومي عن واقع أن الاحتلال لا يفرّق بين طفل ومسلّح، فكل فلسطيني مشروع استهداف.
الاقتحامات لا تنحصر في شمال الضفة فقط، بل تمتد إلى الجنوب والوسط، كما في اقتحام بيت لحم والخليل ومخيم العروب، حيث أُصيب العديد من الفلسطينيين بحالات اختناق نتيجة إطلاق قنابل الغاز بكثافة، حتى في المناطق السكنية، دون أدنى اعتبار لوجود الأطفال أو المسنين. هذه الممارسات، بقدر ما تهدف إلى “جمع معلومات استخباراتية” أو “اعتقال مطلوبين”، وفق الرواية الإسرائيلية المعتادة، فإنها في جوهرها تعبّر عن سياسة ممنهجة لترويع السكان وكسر إرادتهم وإبقائهم في حالة خوف دائم.
عصابات استيطانية مسلحة
إلى جانب جرائم الجيش، تُشكّل اعتداءات المستوطنين وجهًا آخر للاحتلال، أكثر انفلاتًا وأقل خضوعًا لأي محاسبة. ما حدث في بلدة بيتا جنوب نابلس، حيث اعتدى المستوطنون على الأهالي وأحرقوا مركبات، وأصابوا شابًا برصاصة مطاطية في الرأس، يمثل صورة مكررة لواقع بات الفلسطينيون يعيشونه يوميًا: عصابات استيطانية مسلحة تنزل إلى القرى والبلدات تحت حماية الجيش، تهاجم البيوت والمزارع، وتنسف أي إمكانية للعيش بسلام. هذه الهجمات ليست مجرد “اعتداءات فردية” كما تدّعي السلطات الإسرائيلية، بل هي جزء من منظومة استيطانية توسعية تعمل بغطاء حكومي وسياسي كامل، وتُستخدم كأداة لفرض الطرد التدريجي للفلسطينيين من أراضيهم.
توقيت هذا التصعيد في الضفة ليس عرضيًا، بل يتقاطع مع العدوان المفتوح على غزة. فبينما يُستخدم القصف والمجازر هناك لتحقيق أهداف سياسية وأمنية، يتم في الضفة استغلال انشغال العالم بغزة لتسريع وتيرة التهجير وهدم البيوت والاستيلاء على الأراضي. الوجود المكثف للجيش والمستوطنين في مناطق مثل جنين والخليل ونابلس، يتزامن مع قرارات توسيع مستوطنات، وشق طرق التفافية، وفرض المزيد من القيود على حركة الفلسطينيين، في محاولة لتفكيك النسيج السكاني الفلسطيني وتفريغ الأرض من سكانها الأصليين.
النتيجة هي واقع كارثي في الضفة، حيث يعيش الفلسطينيون بين فكي كماشة: جيش يقتحم ويطلق النار ويعتقل، ومستعمرون يمارسون الإرهاب اليومي باسم الدين والقومية، وسط غياب أي حماية دولية أو رادع قانوني فعّال. وفي ظل هذا المشهد، يواصل المجتمع الدولي فشله في كبح جماح الاحتلال، بل تتزايد مظاهر التواطؤ من خلال الدعم السياسي والعسكري الذي توفره قوى كبرى لإسرائيل، مما يشجعها على التمادي في سياساتها الإجرامية دون خشية من المحاسبة.
انهيار شامل لفكرة الحل السياسي
المعاناة في الضفة ليست مجرد سلسلة من الانتهاكات اليومية، بل تعكس انهيارًا شاملًا لفكرة “الحل السياسي” أو “عملية السلام”، وتؤكد أن إسرائيل لا تنظر إلى الضفة ككيان قابل للسيادة أو الاستقلال، بل كمخزون ديمغرافي يجب السيطرة عليه أو تفكيكه. إن الاستهداف المتكرر للأطفال، وترويع القرى، وحرق الممتلكات، وتقييد الحركة، تكشف أن الاحتلال لا يسعى فقط إلى إدارة الصراع، بل إلى إعادة تشكيل الجغرافيا والسكان بما يخدم مشروعه الاستيطاني طويل المدى.
وفي هذا الإطار، تصبح مقاومة الفلسطينيين – رغم ضعف الإمكانيات – تعبيرًا طبيعيًا عن رفض هذا الواقع ومحاولة للتمسك بما تبقى من كرامة وهوية وحق تاريخي. فالضفة، كما غزة، تعيش مأساة مستمرة عنوانها القمع والحرمان والتطهير الصامت، في ظل عالم اختار أن يتغاضى، إن لم يكن أن يتواطأ.