يحمل انتحار الجندي الإسرائيلي السابق دانيال إدري دلالات عميقة تتجاوز المأساة الفردية لتكشف عن أزمة متفاقمة داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وتعكس التصدعات النفسية التي خلفتها سنوات من الحروب المتكررة، وخاصة في غزة ولبنان، على من يُفترض أنهم “الناجون” من ساحات المعركة. فبينما تروّج إسرائيل لرواية التفوق العسكري والصرامة الانضباطية داخل جيشها، تأتي هذه القصة لتزيح الستار عن واقع آخر أكثر هشاشة، يتوارى عادةً خلف الشعارات الوطنية وصور الجنود الأبطال.
تجارب ميدانية قاسية
كان إدري واحداً من آلاف الجنود الذين خاضوا تجارب ميدانية قاسية، لكنه لم يعد من المعركة بجروح في الجسد، بل بجروح في النفس لم تلتئم، ولم تجد من يحتضنها أو يستوعب عمقها. رواية والدته التي تتحدث عن هوسه بالروائح العالقة في الذاكرة، ومشاهد الجثث التي لا تفارقه، تتطابق مع ما يُعرف طبياً باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وهو اضطراب شائع بين الجنود الذين خاضوا تجارب قتالية قاسية، لكنه ما زال في إسرائيل محاطاً بثقافة إنكار أو تقليل.
المؤسسة العسكرية، رغم معرفتها بالمخاطر النفسية المرتبطة بالخدمة في مناطق النزاع، لا تزال تدير هذا الملف بمنطق البيروقراطية المجردة. فرفض الجيش منح إدري جنازة عسكرية، لأنه لم يكن في الخدمة الفعلية وقت انتحاره، يكشف عن الفجوة بين منطق القانون ومنطق الأخلاق. إدري لم يمت في ساحة المعركة، لكنه كان يحمل المعركة في داخله. مات بفعل ما شاهده ونقله من جثامين، وما عاشه من رعب وفقد، وهي تبعات مباشرة لخدمته العسكرية. ومع ذلك، لا يجد في موته ما يكفي كي يُعامل باعتباره شهيداً وفق تصنيفات الجيش الصارمة، مما يمثل صدمة مزدوجة لعائلته التي فقدت ابنها، وتواجه الآن تهميشاً رسمياً لقصته.
معاناة الجنود الإسرائيليين
كما أن خلفية إدري الاجتماعية – فقدان والده مبكراً، كونه أحد أربعة أشقاء، وعدم استقراره النفسي بعد التسريح – تكشف عن هشاشة شبكة الدعم الاجتماعي والنفسي التي تُقدم للجنود بعد خروجهم من الخدمة. فقد طلب إدري الدخول إلى مستشفى نفسي قبل أيام من انتحاره، لكنه أُبلغ بالانتظار، وهو تأخير بيروقراطي قاتل في حالة إنسان يعيش على حافة الانهيار. هذه الثغرة في نظام الرعاية النفسية تعكس فشلاً في التعامل مع أعراض الخطر المبكرة، ما يجعل من انتحاره ليس مجرد مأساة إنسانية، بل نتيجة متوقعة لمنظومة تتعامل مع الألم النفسي بوصفه أمراً ثانوياً، أو قابل للتأجيل.
الانتحار هنا ليس فقط فعل يأس فردي، بل هو صرخة احتجاج ضد مؤسسات عسكرية واجتماعية لم تُنصت بما فيه الكفاية. فدانيال، الذي انضم طوعاً للجيش، واستمر في الخدمة حتى بعد تسريحه، لم يكن يتوقع من دولته إلا أن تعترف بألمه وتكريمه عند موته. وحين لم تجد والدته غير الصحف والمواقع لتروي مأساة ابنها، فإن ذلك يعكس غياب منظومة احتواء فعلية لمعاناة الجنود ما بعد الخدمة، رغم أن إسرائيل تحرص على تصوير جنودها كرموز قومية، إلا أن التعامل مع معاناتهم الفعلية يبدو أقل بكثير من الخطاب المعلن.
مأساة إدري
وما يزيد من حدة المفارقة، أن انتحار إدري يأتي في سياق حرب ما تزال مشتعلة في غزة، حيث يُستدعى الجنود إلى جبهات القتال، وتُبنى سياسات الحكومة الإسرائيلية على استعراض القوة. لكن في خلفية هذه القوة، يقف جنود مثل إدري ينهارون بصمت، ولا يجدون من يمدّ إليهم يداً، لا في حياتهم، ولا حتى بعد موتهم. إن قصته تطرح تساؤلات جوهرية عن كلفة الحرب الحقيقية، ليس على الطرف الفلسطيني وحده، بل أيضاً داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، الذي يكتشف تدريجياً أن انتصاراته العسكرية تُنتج جروحاً عميقة في ذاكرة أفراده، لا تندمل بسهولة.
إن مأساة إدري هي مرآة لصدع يتسع داخل المجتمع الإسرائيلي، بين الدولة التي تتحدث باسم “الأمن القومي”، والأفراد الذين يكتشفون أن أجسادهم وذاكرتهم هي الميدان الحقيقي للمعركة. وفي النهاية، يبقى السؤال الأشد إيلاماً: كم من إدري آخر ينتظر دوره بصمت؟