تمثل حالات الانتحار المتزايدة بين صفوف الجنود الإسرائيليين مؤشراً خطيراً على عمق الأزمة النفسية والإنهاك المعنوي الذي تعيشه المؤسسة العسكرية في إسرائيل منذ اندلاع الحرب على غزة. فوفق ما كشفته صحيفة “هآرتس”، فإن 21 جندياً أقدموا على الانتحار خلال عام 2024، منهم 14 منذ مطلع العام فقط، ما يعني أن الجيش لا يواجه فقط حرباً في الميدان، بل حرباً صامتة داخل صفوفه، تتعلق بالضغط النفسي وفقدان التوازن الذهني لدى أفراده.
هذا الرقم لا يمكن النظر إليه على أنه عرضي أو هامشي، بل هو انعكاس مباشر لتبعات معركة طويلة الأمد فقدت بوصلتها الاستراتيجية، وتحولت من عملية محدودة الأهداف إلى مستنقع استنزاف، يجد فيه الجنود أنفسهم في حالة من التوتر المتواصل، والقتل العشوائي، والبيئة غير المستقرة. فالخدمة في غزة لم تعد “مهمة” عسكرية، بل عبء يومي محمّل بالخوف من كمائن المقاومة، وتفجيرات الأنفاق، والاشتباك داخل بيئة حضرية معقدة، تتداخل فيها الجغرافيا مع المقاومة المنظمة.
الانقسام الداخلي في إسرائيل
الجنود الذين يعيشون هذا الواقع الميداني القاسي يتعرضون لضغوط مضاعفة، ليس فقط بسبب بيئة القتال، بل أيضاً بسبب انعدام اليقين في الهدف السياسي من المعركة، وغياب الأفق الواضح للخروج منها. فالخطاب الرسمي المتناقض، والانقسام الداخلي في إسرائيل، والغضب الشعبي المتزايد، كلها عوامل تولّد فراغاً معنوياً لدى الجنود، يجعلهم في كثير من الأحيان أسرى لليأس أو الندم أو الانهيار العصبي.
كما أن كثيراً من الجنود في هذه الحرب من فئة الاحتياط، تم استدعاؤهم من حياتهم المدنية إلى ساحة حرب غير محددة الزمن، ما خلق فجوة حادة بين طبيعة الحياة السابقة وطبيعة الحياة العسكرية الطاحنة، خاصة في ظل ظروف معيشية شاقة وتوتر دائم وانقطاع عن العائلة والعمل والمجتمع.
دلالات تصاعد معدلات الانتحار
انتحار الجنود لا يمكن فصله أيضاً عن الأثر النفسي لمشاهد الموت والدمار، خاصة حين يكون الجنود أنفسهم شهوداً أو مشاركين في عمليات ذات طابع دموي، مثل قصف المنازل المكتظة أو الاشتباك مع مسلحين في بيئات مأهولة بالمدنيين. فحتى داخل الجيش، ليس الجميع متصالحاً مع فكرة القتل الممنهج أو مع عمليات تفتقر إلى العدالة الأخلاقية، ما يولّد لدى البعض شعوراً بالذنب أو الصدمة ما بعد الصدمة (PTSD)، وهي حالة معروفة في الحروب الطويلة.
ومن زاوية أوسع، فإن هذا التصاعد في معدلات الانتحار يكشف فشلاً في البنية النفسية والدعم المعنوي داخل الجيش الإسرائيلي، رغم أنه يُسوّق كواحد من أكثر الجيوش “احترافاً”. فالتعامل مع الأزمات النفسية للجنود، سواء عبر وحدات الدعم أو برامج الاستجابة السريعة، يبدو أنه لا يرتقي إلى حجم الأزمة، وربما لا يعترف بها بما يكفي.
الأزمة النفسية للجنود
المثير للقلق أيضاً أن هذه الحالات تأتي في وقت تحاول فيه القيادة الإسرائيلية الحفاظ على صورة القوة والسيطرة. لكن الحقيقة أن هذه الحوادث تشكّل كسرًا لهذه الصورة من الداخل، وتُظهر هشاشة الجبهة المعنوية للجيش، التي تعتبر حاسمة في استمرار أي حرب طويلة.
ارتفاع حالات الانتحار هو جرس إنذار لا يمكن تجاهله. ليس فقط لأنه يُظهر الأزمة النفسية للجنود، بل لأنه يكشف حدود قدرة الجيش الإسرائيلي على تحمّل حرب استنزاف طويلة، لم تعد نتائجها مضمونة، ولا أهدافها واضحة، ولا قيادتها محل إجماع داخلي. وبينما يستمر النزف في غزة، يستمر نزف آخر في صمت داخل ثكنات الجيش الإسرائيلي، لكن صمته قد لا يدوم طويلاً.