في كل مرة يخرج فيها إيدي كوهين، الباحث الإسرائيلي المقرب من دوائر صنع القرار في تل أبيب، بتصريح مثير للجدل، يُطرح السؤال مجددًا: ما الهدف الحقيقي من هذا الكلام؟ ومتى يتحول التصريح “غير الرسمي” إلى سياسة واقعية تمهّد لأمر واقع جديد في علاقات إسرائيل بجيرانها؟
أحدث خرجاته تمثلت في مطالبة مصر بتعويض اليهود الذين غادروا أراضيها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وهو تصريح، وإن بدا فرديًا، لا يمكن فصله عن سلسلة رسائل مبطنة ترسلها إسرائيل، تارة عبر مسؤولين سابقين، وتارة أخرى عبر شخصيات إعلامية تروج لرؤية سياسية بعيدة المدى.
تصريحات فردية… لكنها ليست معزولة
رغم أن كوهين لا يشغل منصبًا رسميًا، فإن سجله في التعبير عن مواقف تتماهى مع السياسات الإسرائيلية يجعله صوتًا يستحق الإنصات إليه، لا من باب الجدية، بل من باب استشراف النوايا. فمطالبته الأخيرة لا تأتي في فراغ، بل في ظرف إقليمي دقيق تسعى فيه إسرائيل لتثبيت سياسات الأمر الواقع بعد توترات غير معلنة مع القاهرة، وخرق صريح لبنود اتفاقية كامب ديفيد، خاصة فيما يتعلق بالوجود العسكري في مناطق متاخمة لحدود غزة.
المطالبة بالتعويضات ليست جديدة، لكنها تُعاد الآن ضمن سياق يتسم بمحاولة إعادة قراءة التاريخ من زاوية تخدم مصالح إسرائيل في الحاضر. وهو تكتيك يعتمد على استفزاز الخصوم لاختبار ردود أفعالهم، أو دفعهم إلى ردود انفعالية تُوظف لاحقًا في معارك إعلامية ودبلوماسية.
مصر… عندما يكون الصمت سياسة
الرد المصري المتوقع، والذي بدأ فعليًا بالتجاهل، يعكس فهماً عميقًا لطبيعة اللعبة. فالتعليق على هكذا تصريحات لا يخدم سوى صاحبها. وإحياء قضية التعويضات في هذا التوقيت بالذات، بينما تشهد مصر ضغوطًا اقتصادية وأمنية متزايدة، يبدو محاولة مكشوفة لجر القاهرة إلى معركة جانبية تعيد ترتيب الأدوار في المشهد الإقليمي.
مصر تدرك أن أي رد رسمي سيُضفي طابعًا من الجدية على تصريحات لا ترقى لأن تُؤخذ على محمل السياسة، وستفتح الباب لتراشق إعلامي لا طائل منه. كما أن تجاهل التصريح يُسقط عنه قيمته الرمزية، ويمنعه من التحول إلى قضية رأي عام دولي.
في الخلفية: كامب ديفيد تحت الضغط
ما يجب التوقف عنده، هو أن هذه التصريحات تتزامن مع تغيرات جوهرية في سلوك إسرائيل تجاه اتفاقية السلام، خاصة بعد عمليات توغل عسكري متكررة قرب الحدود المصرية، واستخدام معبر رفح كورقة ضغط في التعامل مع ملف غزة. في هذا الإطار، يصبح تصريح كوهين أكثر من مجرد استعراض إعلامي: إنه بالون اختبار لقياس مدى استعداد مصر للرد، أو حتى لإعادة تقييم التزاماتها بموجب الاتفاقيات القديمة.
لكن الرد المصري – أو بالأحرى، عدم الرد – يحمل في طياته رسالة ضمنية مفادها أن القاهرة ترفض الانجرار وراء الاستفزاز، ولا تنوي منح خصومها فرصة تحويل تصريحات عبثية إلى أزمات سياسية.
كلمة أخيرة
حين تصمت الدول، لا يكون ذلك دومًا علامة ضعف. أحيانًا، يكون الصمت هو الشكل الأذكى للمواجهة. وفي وجه تصريحات مشحونة بالحسابات الدعائية كتصريحات إيدي كوهين، لا يبدو أن مصر بحاجة إلى أكثر من التجاهل، فهو كفيل بإبقاء الأمور في حجمها الحقيقي، دون تضخيم أو تهويل.