لم يكن من الغريب أن يُقابل خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في جلسة المجلس المركزي الفلسطيني هذا الأسبوع بعاصفة من الهجوم الإعلامي، خاصة من منصات محسوبة على تيار الإخوان المسلمين أو المتماهية مع حركة “حماس”. فالرجل لم يكتفِ بحديث دبلوماسي مكرر حول “ضرورة الوحدة”، بل ذهب إلى صلب الأزمة بوضوح لا يحتمله البعض، حين حمّل “حماس” جزءًا من مسؤولية استمرار العدوان الإسرائيلي على غزة بسبب تمسكها بالأسرى، ووجّه نقدًا لاذعًا لما وصفه بمواقفها التي توفر “ذرائع مجانية” للاحتلال.
إن انتقاد الرئيس عباس الشديد اللهجة، والذي تضمن عبارات أثارت الجدل، لا يمكن فصله عن سياق أكبر وأكثر خطورة مما يبدو على السطح. فالمجزرة المستمرة في غزة منذ السابع من أكتوبر لم تتوقف، والمجتمع الدولي برمّته يقف عاجزًا أو متواطئًا، بينما تتحول أوراق التفاوض إلى أدوات استنزاف لا تُفضي إلا إلى مزيد من الدماء. في هذا الإطار، تأتي تصريحات عباس لتقول بوضوح: “لا تمنحوا إسرائيل حجة لمواصلة حربها”. وهي رسالة تحمل بُعدًا سياسيًا واستراتيجيًا يتجاوز التعبير عن الغضب أو الانفعال.
عباس والواقعية السياسية: مسؤولية الدولة لا مزايدة الفصائل
منذ أكثر من عقدين، يحاول محمود عباس — رغم ضعف أدواته وانقسام الصف الفلسطيني — أن يُبقي على الحد الأدنى من الاعتراف الدولي بفكرة “الدولة الفلسطينية”. لقد أدرك مبكرًا أن لا مجال لمقاومة الاحتلال بالخطابات وحدها، وأن الفصائل التي تقتات على منطق “التحدي المطلق” دون أي حساب للكلفة السياسية والبشرية، لا تفعل في النهاية سوى تسليم ورقة الانتصار للعدو.
تصريحه بخصوص ضرورة تسليم الأسرى — وبالأخص الرهينة الأمريكي — لا ينم عن خضوع، بل عن محاولة نزع ورقة الضغط من يد إسرائيل التي تُبرر بها حصارها الممنهج لغزة، وتُشرعن بها قتل المدنيين تحت ستار “استعادة المختطفين”. فهل من الخطأ أن يدعو رئيس السلطة إلى سحب هذه الذريعة القاتلة؟ وهل من العدل أن نُحمّل عباس مسؤولية فشل “حماس” في إدارة مفاوضاتها أو مراهناتها؟
الهجوم الإخواني: الإعلام حين يتحول إلى سلاح تصفية حسابات
الهجوم الإعلامي على تصريحات عباس لم يكن موضوعيًا، بل انزلق سريعًا نحو التخوين والتشويه. وهذا ليس جديدًا على الخطاب الإخواني الذي طالما تعامل مع “فتح” والسلطة الوطنية باعتبارهما عدوًا أكبر من إسرائيل نفسها. فبدل أن يُقرأ تصريح عباس في ضوء الجريمة المستمرة في غزة، جرى تضخيم عباراته النابية لتغذية انقسام مقيت يعكس أولويات تيار لا يبحث عن حل، بل عن استمرار حالة الفوضى التي تمنحه دورًا خارقًا للشرعية.
ومن المؤسف أن هذه المنصات لم تتوقف لحظة لتسأل نفسها: من المستفيد من استمرار الاحتفاظ بالأسرى؟ وهل يُعقل أن يتحول المدنيون في غزة إلى دروع بشرية في سبيل مكاسب تفاوضية تُصاغ في الغرف المظلمة؟
الحقيقة المرة: عباس قال ما لا يجرؤ كثيرون على قوله
صحيح أن نبرة عباس كانت غاضبة، وربما تجاوزت حدود اللباقة السياسية، لكنه قال ما لا يجرؤ كثير من القادة الفلسطينيين أو العرب على قوله: لا يمكن أن تُدار المقاومة بمعزل عن الواقع، ولا أن يتحول الشعب الفلسطيني إلى وقود لصراع قرارات لا يعرف عنها شيئًا. وإذا كانت “حماس” تملك ورقة الأسرى، فإن استخدامها بطريقة تعطل وقف إطلاق النار يعني أنها باتت — شاءت أم أبت — جزءًا من لعبة الدم الإسرائيلية.
ما قاله عباس ليس انحيازًا للاحتلال، بل صرخة من عمق الخسارة الفلسطينية المستمرة. أراد أن يُخرج المأساة من دائرة المزايدات إلى مساحة الفعل السياسي الواقعي. أراد، ولو بطريقة صادمة، أن يعيد النقاش إلى جوهره: كيف نُوقف هذا الموت المتسلسل؟ وهل نملك الجرأة للقيام بما يجب، حتى لو خالف المزاج العام الذي صاغه الإعلام المؤدلج؟
في الختام: بين الحقيقة والمزايدة، لا بد من صوت يعبر عن المسؤولية
الذين هاجموا عباس لم يناقشوا جوهر كلامه، بل انشغلوا بتهشيم صورته. أما الواقع، فيصر على أن المعركة لن تُحسم إلا حين تتوقف الفصائل عن استخدام الدم كورقة تفاوض، وحين يُعاد بناء الموقف الفلسطيني على أساس أولويات الناس لا مشاريع التنظيمات.
ولأن السياسة ليست لعبة تجريبية، فإن ما قاله أبو مازن يظل في جوهره نداء عقلانيًا — حتى لو جاء بأسلوب غاضب — لتجنب المزيد من الكوارث. هو موقف رجل دولة، لا زعيم جماعة.