زيارة رئيس جهاز “الموساد” الإسرائيلي ديفيد برنياع إلى العاصمة القطرية الدوحة، الخميس، لا يمكن قراءتها بمعزل عن التحولات الجذرية في أجندة الاحتلال الإسرائيلي، والتي باتت تُظهر انفصالًا متزايدًا بين الخطاب العلني حول مفاوضات تبادل الأسرى، والواقع العملي الذي يتجه بقوة نحو الحسم العسكري وفرض معادلات أمنية جديدة في كل من غزة وجنوب لبنان.
برنياع، الذي يُعدّ رأس الحربة في ما تُسمى “الدبلوماسية الأمنية” الإسرائيلية، يلتقي رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في أول زيارة له إلى الدوحة منذ توقيع اتفاق التبادل المؤقت في يناير الماضي. هذه الزيارة – رغم ظاهرها التفاوضي – تأتي في وقت تؤكد فيه جميع المؤشرات أن دولة الاحتلال لم تعد تعتبر ملف الأسرى على رأس سلم أولوياتها، بل تتعامل معه كغطاء سياسي لتحركاتها العسكرية التي باتت علنية ومكثفة.
في الأشهر التي تلت الهجوم الكبير الذي نفذته “حماس” في السابع من أكتوبر، عكفت إسرائيل على تقديم خطاب مزدوج: فهي في الظاهر تستمر في مفاوضات الوساطة عبر قطر ومصر والولايات المتحدة، لكنها في الجوهر تعمل على ترسيخ واقع ميداني جديد في غزة، يقوم على تقويض البنية التحتية للمقاومة المسلحة، وتفريغ القطاع من القدرة على المبادرة عسكريًا أو سياسيًا.
وقد أصبحت هذه المفارقة أكثر وضوحًا بعد استئناف العمليات الإسرائيلية الواسعة في مناطق كرفح وخان يونس، حيث لم تُظهر تل أبيب أي رغبة جدية في تهدئة أو انتظار نتائج المفاوضات. حتى المعلومات المسرّبة عن جولات الحوار تُشير إلى تشدد إسرائيلي متعمد، يُفهم منه أن الهدف ليس الوصول إلى تسوية، بل تحميل “حماس” مسؤولية إفشالها.
هذا التحول ليس منعزلاً عن السياق الإقليمي. فإسرائيل، التي تواجه تعقيدات متزايدة على جبهتها الشمالية مع حزب الله في لبنان، تسعى إلى إغلاق ملف غزة ميدانيًا، ليتسنى لها التفرغ لما تعتبره “الخطر الاستراتيجي الأهم”، أي الوجود الإيراني عبر وكلائه في جنوب لبنان. من هنا، لم تعد صفقة تبادل الأسرى أولوية ملحة، بقدر ما أصبحت ورقة يمكن المناورة بها، وربما استخدامها لتحصيل مكاسب إعلامية أو كسب الوقت.
حتى اللقاء في الدوحة، يبدو أنه لا يحمل آمالاً كبيرة بقدر ما يُستخدم لتأكيد المواقف السابقة لا تطويرها. فالوسيط القطري، رغم ما يملكه من أدوات اتصال مع “حماس”، لم يستطع في الجولات السابقة انتزاع تنازلات من الطرفين تكفي لصياغة اتفاق دائم، كما أن الموقف الأمريكي بدا هو الآخر متذبذبًا، وغير راغب في الضغط الحقيقي على إسرائيل ما دامت عملياتها لا تهدد الاستقرار الإقليمي الواسع.
يبقى أن زيارة برنياع لقطر تُمثّل جزءًا من استراتيجيات “إدارة الوقت” التي يجيدها الموساد، حيث يتم الحفاظ على قنوات مفتوحة حتى في لحظات التصعيد القصوى، لا لبحث حلول حقيقية، بل لضبط الإيقاع العام ومنع الأطراف الأخرى من الانفلات من الطوق. ومن غير المستبعد أن يكون هذا اللقاء، من منظور إسرائيلي، مجرد استكمال للصورة الدبلوماسية، بينما يجري على الأرض رسم حدود جديدة للنار والخراب في غزة.
تشير تحليلات الصحافة العبرية إلى أن إسرائيل تسعى من خلال المفاوضات إلى تحقيق ثلاثة أهداف: استنفاد فرص التوصل إلى حل سلمي، الحؤول دون حدوث تطورات سلبية ضد إسرائيل داخل الهيئات الدولية، والاستعداد للتحديات المحيطة . كما تبرز تقارير أخرى أن إسرائيل تهدف إلى فرض واقع أمني جديد في غزة ولبنان، من خلال العمليات العسكرية، مع استخدام المفاوضات كأداة سياسية.
وفي ظل غياب إرادة دولية فاعلة لفرض وقف لإطلاق النار، فإن أي حديث عن هدنة أو تبادل أسرى يبدو أشبه بتكرار طقسي لمفاوضات عبثية، تُستخدم لتسكين الرأي العام العالمي، بينما تمضي إسرائيل في تنفيذ استراتيجيتها القائمة على “تدمير شامل للبنية العسكرية لحماس”، وإعادة رسم موازين الردع في الجنوب والشمال على حد سواء.