تشهد المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية تصعيداً خطيراً وممنهجاً في وتيرة الاقتحامات والاعتداءات من قبل المستوطنين وجيش الاحتلال الإسرائيلي، ضمن سياسة متكاملة تهدف إلى تقويض الوجود الفلسطيني وتوسيع رقعة الاستيطان، بغطاء عسكري وسياسي واضح. ما حدث في قرية عابود شمال غرب رام الله، ثم في بلدة ترمسعيا، ليس حوادث معزولة، بل جزء من استراتيجية متصاعدة تستغل الأوضاع الإقليمية والدولية لتحقيق مزيد من التقدم في مشروع السيطرة على الأرض وفرض الوقائع بالقوة.
اقتحام منطقة وادي الليمون من قبل نحو 100 مستوطن، تحت حماية واضحة من جيش الاحتلال، يكشف مدى التنسيق العلني بين المستعمرين والقوات العسكرية. الهدف لم يكن فقط ترهيب الأهالي، بل استهداف مباشر لبنية تحتية حيوية، متمثلة في خزان مياه يخدم عدداً من القرى، ويعتمد عليه السكان خاصة في فصل الصيف. هذا النوع من الهجمات يستهدف مصادر الحياة الأساسية، في محاولة لدفع السكان إلى الرحيل القسري، عبر خلق بيئة لا تصلح للعيش.
انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف
محاولة الاعتداء على أحد المواطنين باستخدام أدوات حادة تعكس مستوى العنف المتصاعد لدى المستوطنين، الذين باتوا يشعرون أنهم فوق القانون، بل أدوات تنفيذية لسياسات الدولة الإسرائيلية ذاتها. فبدلاً من أن تقوم قوات الاحتلال بمنع هذه الاعتداءات، فإنها توفر الحماية للمستوطنين، وتمنحهم الغطاء الكامل لتنفيذ مخططاتهم، في انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني.
وفي بلدة ترمسعيا، تعيد مشاهد المستوطنين وهم يرفعون أعلام دولة الاحتلال على مبانٍ قيد الإنشاء نصبوا فيها خياماً، مشهداً استعمارياً واضحاً يهدف إلى تكريس السيطرة المكانية والرمزية على الأراضي الفلسطينية، وإرسال رسالة تحدٍ للسكان الفلسطينيين بأن هذه الأرض ليست لهم. هذه التصرفات تمثل خطوة استباقية نحو تحويل المناطق إلى بؤر استيطانية جديدة، غالباً ما تبدأ هكذا: بخيمة، ثم حماية عسكرية، ثم قرار رسمي بالضم، ومن ثم بناء دائم وتوسع مستمر.
الخطير في هذا التصعيد هو تزامنه مع دعوات علنية من قادة المستوطنين والحكومة اليمينية المتطرفة لتكثيف اقتحام القرى الفلسطينية، فيما يبدو أنه مرحلة جديدة من محاولة إعادة هندسة الواقع الجغرافي والديمغرافي في الضفة الغربية. الفارق بين السابق والحاضر أن هذه الاقتحامات لم تعد تقتصر على “مناطق تماس” أو “بؤر ساخنة”، بل باتت تمتد إلى العمق الفلسطيني وتستهدف القرى الزراعية الهادئة ومصادر رزق السكان.
تكريس مشروع الضم
هذه الممارسات لا يمكن فصلها عن الدعم السياسي الذي توفره حكومة الاحتلال بقيادة بنيامين نتنياهو، والتي تضم وزراء معروفين بتأييدهم الصريح للمستوطنين ودعواتهم لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم. كما تأتي هذه الاقتحامات في ظل انشغال العالم بالحرب في غزة وتآكل التركيز الدولي على ما يجري في الضفة، وهو ما تستغله إسرائيل لتكريس مشروع الضم الزاحف.
تداعيات هذه الاقتحامات خطيرة على أكثر من مستوى. أولاً، هي تقوض أي فرص لتهدئة مستقبلية أو حل سياسي، حيث إن الاستيطان هو النقيض المباشر لفكرة الدولة الفلسطينية. ثانياً، تؤدي إلى خلق حالة من الغليان الشعبي، تدفع نحو مزيد من المواجهات، وقد تُفجر انتفاضة شعبية جديدة، خاصة في ظل غياب الأفق السياسي والاقتصادي. ثالثاً، تسهم في تفكيك البنية المجتمعية الفلسطينية من خلال استهداف مصادر الحياة والبنى التحتية.
ما يجري هو حرب يومية تُشن على السكان الفلسطينيين، ليست بالضرورة عبر القصف أو الاجتياحات الواسعة، بل عبر أداة خطيرة هي المستوطنون الذين تحولوا إلى ميليشيات تعمل تحت حماية الجيش، وتنفذ خطة الاحتلال على الأرض بأدواتها “المدنية” الظاهرة، ولكن بأهداف عسكرية واستعمارية خالصة. في هذه الحرب الصامتة، لا يُرفع السلاح فحسب، بل تُسرق الأرض، وتُقوّض الحياة.
تضييق سبل الحياة على السكان
تتسارع وتيرة الاعتداءات التي ينفذها المستوطنون الإسرائيليون، تحت حماية ودعم مباشر من جيش الاحتلال، في المدن والقرى الفلسطينية، حتى باتت هذه الاقتحامات سلوكًا ممنهجًا يهدف إلى ترسيخ واقع استيطاني بالقوة، وتفريغ المناطق الفلسطينية من سكانها الأصليين عبر الإرهاب المنظم. ما حدث اليوم في قريتي عابود وترمسعيا شمال رام الله، ليس حادثًا منعزلًا، بل هو امتداد لسلسلة طويلة من الهجمات التي تنفذها مجموعات المستوطنين في الضفة الغربية بدعم وتسهيل من المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
في قرية عابود، اقتحم نحو 100 مستوطن منطقة وادي الليمون الحيوية، القادمة من جهة مستعمرة “بيت آرييه”، وهي واحدة من المستوطنات المقامة على أراضي المواطنين، في انتهاك صارخ للقانون الدولي الذي يعتبر هذه المستوطنات غير شرعية. الهدف لم يكن فقط استعراضًا للقوة أو التخويف، بل محاولة تخريب خزان مياه حيوي تستخدمه القرى المحيطة كمصدر احتياطي خاصة في فصل الصيف. هذه المحاولة تبرز كيف أن الهجمات لا تقتصر على البشر، بل تمتد لتشمل البنى التحتية، لتضييق سبل الحياة على السكان الفلسطينيين، ودفعهم تدريجيًا إلى مغادرة أرضهم.
وفي بلدة ترمسعيا، اقتحم المستوطنون منطقة السهل الزراعية، ووضعوا أعلام إسرائيل على مبانٍ قيد الإنشاء، في دلالة رمزية واضحة تعكس نية السيطرة وفرض أمر واقع، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك بنصب خيام، في خطوة تستبق عملية استيطان محتملة. هذه الممارسات التي تشبه كثيرًا أساليب الاستيطان في بداياته الأولى، تكشف عن استراتيجية مبيتة تقوم على توسيع نطاق الاحتلال وشرعنته تدريجيًا من خلال الوجود الميداني والاستيلاء على الأراضي دون رادع.
تهجير تدريجي صامت
اللافت أن هذه الهجمات تجري بتزامن مع دعوات من جماعات استيطانية متطرفة لتكثيف الاقتحامات والهجمات على القرى الفلسطينية، وهو ما يشير إلى تنسيق وتوجيه سياسي ضمني –أو حتى معلن– يهدف إلى تصعيد التوتر، وخلق حالة من الفوضى والضغط المستمر على السكان الفلسطينيين. وفي كل هذه الاعتداءات، يلعب جيش الاحتلال دور “الراعي الأمني” للمستوطنين، حيث يرافقهم في اقتحاماتهم، ويوفر لهم الحماية، بل ويتدخل لقمع الفلسطينيين الذين يحاولون التصدي لهم، ما يُظهر التواطؤ العلني بين القوات النظامية الإسرائيلية والمليشيات الاستيطانية.
هذه السياسة لا يمكن فصلها عن المشروع الاستيطاني الأكبر، الذي تحاول فيه إسرائيل فرض سيطرتها على الضفة الغربية من خلال تهجير تدريجي “صامت”، لا يتم عبر جرافات فقط، بل عبر الإرهاب اليومي والاقتحامات الليلية، وتهديد مصادر العيش الأساسية مثل المياه، والزراعة، والسكن.
الرسالة من هذه الاقتحامات المتكررة واضحة: لا مكان للفلسطيني في أرضه، وأن بقاءه مرهون بمدى قدرته على الصمود في وجه اعتداءات المستوطنين وتخاذل المجتمع الدولي. ومع كل حادثة اقتحام، تزداد الهوة بين خطاب “السلام” المعلن من بعض الجهات الدولية، والواقع اليومي الذي يعيشه الفلسطينيون تحت احتلال متعدد الأشكال، عسكريًا واستيطانيًا.
صمت دولي
ما يجري في عابود وترمسعيا مثال مصغر لما يحدث يوميًا في الضفة الغربية. هو ليس مجرد عنف فردي، بل ممارسة ممنهجة، تهدف إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، وصناعة واقع جديد بالقوة، في ظل صمت دولي، وانقسام داخلي يزيد من تعقيد المواجهة.
الاقتحامات المستمرة ليست مجرد تحدٍ أمني، بل تهديد وجودي، وهي اليوم واحدة من أخطر أدوات الاحتلال لتفكيك المجتمع الفلسطيني واستنزافه، أرضًا وهوية.