تواجه إسرائيل في المرحلة الراهنة، وتحديدًا في عام 2025، تحديات داخلية متشابكة تشكّل تهديدًا حقيقيًّا لاستقرارها السياسي والاجتماعي، وربما لوجودها البنيوي ككيان ذي هوية محددة. فبينما يُسلَّط الضوء في الإعلام على التوترات العسكرية على حدود غزة ولبنان واليمن، تبرز من الداخل جملة من الأزمات المتفاقمة التي تمس جوهر الدولة، وتفتح الباب أمام سيناريوهات كانت توصف قبل سنوات بأنها «غير واقعية».
التحول الديموغرافي المتسارع
أولى هذه التهديدات تتعلق بالتحول الديموغرافي المتسارع، والذي يهدد بزعزعة التوازن السكاني بين اليهود والعرب، وبين التيارات الدينية والعلمانية داخل المجتمع اليهودي نفسه. فالنمو المطّرد في أعداد العرب داخل إسرائيل، إلى جانب فلسطينيي الضفة والقطاع، يتقاطع مع الارتفاع الكبير في عدد الحريديم (اليهود الأرثوذكس المتشددين)، ليشكل ما يشبه قنبلة ديموغرافية موقوتة ستنفجر عاجلاً أم آجلاً في وجه الطابع الذي تدّعيه إسرائيل كـ”دولة يهودية وديمقراطية”.
هذا التغيير لا يمسّ فقط التمثيل العددي، بل يعيد رسم حدود الصراع حول الهوية والقيم والنظام القانوني والاجتماعي. فبينما تسعى إسرائيل للحفاظ على أغلبية يهودية تضمن استمرار السيطرة السياسية، فإن الزيادة الكبيرة في عدد العرب والفئات اليهودية غير الصهيونية (كالحريديم) يهدد بانهيار هذه الصيغة. حيث تشير التقديرات إلى أن الحريديم وحدهم قد يشكلون ثلث السكان بحلول عام 2050، ما يعني ارتفاع كلفة الرعاية الاجتماعية، وتراجع نسبة الفئات المنتجة والمؤهلة أكاديميًّا، وهو ما سينعكس سلبًا على الاقتصاد والديناميات المدنية.
منح الفلسطينيين حقوق سياسية
السيناريو الأخطر في نظر مراكز البحث الإسرائيلية ليس فقط التغير العددي، بل إمكانية تحوّل الصراع إلى نموذج “الدولة الواحدة”، حيث يصبح منح الفلسطينيين حقوقًا سياسية ومدنية كاملة أمراً لا مفر منه أمام الضغط الدولي والواقع الديموغرافي، وهو ما ترى فيه إسرائيل تهديدًا استراتيجيًّا لمشروعها القومي. في هذا النموذج، سيفقد الطابع اليهودي هيمنته السياسية، ما قد يؤدي إلى صراعات داخلية حادة، وحتى انقسامات دستورية واجتماعية بين مكونات الدولة المختلفة.
إلى جانب التهديد الديموغرافي، تواجه إسرائيل شروخًا متزايدة في نسيجها الاجتماعي، لا سيما بين التيار العلماني والتيار الديني المتشدد. هذه الانقسامات تعمّقت بعد قرارات الحكومة الحالية التي تنحاز بشكل واضح لصالح الحريديم والتيارات اليمينية المتطرفة، وتُقصي التيارات الوسطية واليسارية، ما ولّد موجات احتجاج واسعة، خاصة من النخب الأكاديمية والتقنية، التي تُشكّل العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي. هذه النخب، بحسب معهد دراسات الأمن القومي (INSS)، تفكر بجدية في الهجرة إلى الخارج، وهو ما يمثل تهديدًا مباشرًا لرأس المال البشري والتفوق التكنولوجي الذي بُنيت عليه قوة إسرائيل الاقتصادية والعسكرية.
إلى ذلك، تُضاف أزمات متنامية في قطاعات التعليم، والصحة، والإسكان، نتيجة التفاوت الطبقي والتمييز العرقي، وازدياد العبء على الاقتصاد نتيجة السياسات الريعية الموجهة للحريديم. في المقابل، تُشدّد السلطة قبضتها الأمنية لمواجهة أي مظاهر احتجاجية، ما يخلق بيئة قابلة للانفجار في أي لحظة، خاصة في المناطق المختلطة بين العرب واليهود، مثل اللد والرملة وحيفا.
التراجع في هيبة الردع العسكري
كل هذه التهديدات، حين تتلاقى مع التراجع في هيبة الردع العسكري على المستوى الإقليمي، ومع تصاعد الضغوط الدولية بسبب جرائم الحرب في غزة، تُنتج واقعًا غير مسبوق في تاريخ إسرائيل: دولة تتآكل من الداخل، وتفقد تدريجيًا مبررات وجودها ككيان موحد ومتماسك.
من هنا، لم تعد الأسئلة الكبرى التي تُطرح في بعض مراكز التفكير الإسرائيلية مرتبطة بكيفية الانتصار على الخصوم، بل بكيفية البقاء والاستمرار وسط هذا التآكل الداخلي. وهي أسئلة كانت قبل عقد من الزمن تُصنَّف ضمن أدبيات “التيار الانهزامي”، لكنها اليوم أصبحت جزءًا من النقاش الإستراتيجي الجاد.