تشهد الضفة الغربية المحتلة تصعيدًا غير مسبوق في الأعمال العدائية من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي والمستوطنين على حد سواء، في مشهد يعكس تعميقًا لسياسة العقاب الجماعي والتطهير العرقي، ضمن استراتيجية إسرائيلية يبدو أنها تهدف إلى إعادة هندسة الواقع الجغرافي والديمغرافي للضفة الغربية، وتكريس سيطرة أمنية واستيطانية لا رجعة عنها.
تصعيد خطير
الهجمات الإسرائيلية الأخيرة، والتي تنوعت بين الاقتحامات المسلحة وعمليات الاعتقال الواسعة، والحصار المفروض على بلدات بأكملها، تُمثل تصعيداً خطيراً له أبعاد إنسانية وسياسية وأمنية. فليس من قبيل الصدفة أن تتزامن هذه العمليات مع تصاعد غير مسبوق في عنف المستوطنين، الذي يأخذ الآن طابعًا منظمًا وممنهجًا تحت حماية جيش الاحتلال، وليس مجرد اعتداءات فردية كما اعتادت إسرائيل تبريرها في السابق.
في بلدة ترمسعيا شمال شرقي رام الله، قام مستوطنون بإضرام النيران في محاصيل القمح بعد أن تم حصدها، في هجوم يستهدف الأمن الغذائي مباشرةً، ويعكس نية واضحة في حرمان الفلسطينيين من موارد رزقهم وتضييق الخناق على حياتهم اليومية. هذا النوع من الهجمات الزراعية لا يأتي بمعزل عن مجمل المشروع الاستيطاني، بل هو امتداد طبيعي لسياسة الأرض المحروقة التي تمارسها سلطات الاحتلال منذ سنوات.
ترهيب المجتمع
وفي سياق متصل، تتكرر مشاهد الاقتحامات الليلية والاعتقالات العشوائية في بلدات مثل دورا وبروقين وكفر الديك ومخيم العين وبلاطة، وكلها عمليات تجري غالبًا دون أوامر قضائية، وتستهدف شبانًا فلسطينيين، في محاولة واضحة لترهيب المجتمع بأكمله، تحت ذريعة “البحث عن منفذي عمليات”. لكن حقيقة الأمر أن الاحتلال يستخدم أي حادث أمني ذريعة لتوسيع سيطرته الأمنية، ومعاقبة جماعية للمناطق الفلسطينية، بما فيها فرض حظر التجوال، إغلاق المداخل، والتنكيل بالسكان.
الأمر الأخطر هو العلاقة الواضحة والمتصاعدة بين جيش الاحتلال والمستوطنين، الذين باتوا يتصرفون بجرأة متزايدة، كما في حادثة ترمسعيا أو تجمع العوجا البدوي في أريحا. دخول المستوطنين إلى هذه المناطق ورعي أغنامهم فيها، والتجول بين مساكن الأهالي، ليس مجرد “استفزاز”، بل هو رسالة واضحة بأن لا مكان آمن للفلسطينيين، حتى في تجمعاتهم السكنية البعيدة عن “خطوط التماس”.
تهويد الضفة
تزايد هذه الممارسات العدوانية يُنذر بتحول الضفة الغربية إلى مسرح دائم للصراع، وبانهيار شبه كامل للهدوء النسبي الذي كان يحكم هذا الجزء من الأراضي الفلسطينية. كما أن هذه العمليات تسهم في خلق بيئة من الرعب والانهيار النفسي بين السكان، الذين باتوا يعيشون يومياً خطر الموت أو الاعتقال أو التهجير، في ظل غياب الحماية الدولية، وتراخي المجتمع الدولي عن محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها.
ما تقوم به إسرائيل والمستوطنون لا يمكن فصله عن مشروع أوسع، عنوانه “تهويد الضفة” وتفريغها تدريجيًا من سكانها الأصليين. فالهجمات على التجمعات البدوية، وتدمير المحاصيل، والاعتداءات المتكررة على القرى والمخيمات، تسير كلها في خطٍّ واحد هدفه دفع الفلسطينيين نحو الهجرة القسرية، أو على الأقل محاصرتهم في “جزر سكانية” معزولة تفتقر إلى أبسط مقومات البقاء.
حرب استيطانية شاملة
وفي غياب محاسبة دولية، تبقى هذه الجرائم تتكرر، وتتصاعد، وتصبح أكثر وحشية. فالاحتلال يدرك أن الإفلات من العقاب هو ضوء أخضر للاستمرار في سياسته، وأن الضعف العربي والدولي يمنحه هامشاً واسعاً لارتكاب المزيد من الجرائم دون أن يرف له جفن.
تمر الضفة الغربية بمرحلة خطيرة، تتجاوز العمليات العسكرية أو الأمنية التقليدية، إلى ما يمكن وصفه بـ”حرب استيطانية شاملة” على الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية، تُنفذ على الأرض بصمت قاتل، تحت غطاء من التبريرات الأمنية الزائفة، وبشراكة كاملة بين الجيش والمستوطنين، في ظل صمت دولي هو بحد ذاته جريمة أخرى.