استهداف استيطاني ممنهج، يُنفذ على مراحل، ويقوم على مبدأ الاستنزاف البطيء للأرض والهوية والسكان. الولجة ليست فقط قرية صغيرة محاصرة، بل واحدة من آخر معاقل الصمود الفلسطيني في محيط القدس، وتحديدًا في وجه مشروع “القدس الكبرى” الذي تسعى سلطات الاحتلال لتثبيته كأمر واقع.
منذ النكبة عام 1948، تلقت الولجة أولى طعناتها، حين فُقدت 70% من أراضيها بعد احتلال القسم الغربي منها وضمّه لاحقًا إلى حدود بلدية الاحتلال في القدس. لكن النكبة لم تنتهِ، بل اتخذت أشكالًا جديدة، أبرزها النكسة الثانية في 1967 التي قُضم فيها نصف ما تبقى من أراضي القرية لصالح المستعمرتين “جيلو” و”هار جيلو”، ومع الزمن، أحكمت قبضة الجدار الفاصل وخنق القرية تمامًا.
ترسيم حدود السيطرة الإسرائيلية
اليوم، تُواجه الولجة ضربة جديدة، إذ قامت سلطات الاحتلال بنقل الحاجز العسكري القائم على مدخلها نحو عمق القرية، وهو تحرك خطير ليس فقط من الناحية الأمنية والعسكرية، بل من ناحية إعادة ترسيم حدود السيطرة الإسرائيلية على حساب الحق الفلسطيني. موقع الحاجز الجديد يُغلق فعليًا الوصول إلى نحو 1,200 دونم من الأراضي الزراعية، تحوي بساتين ومصاطب ومراعي تُشكّل مصدر حياة لعشرات العائلات، ما يعني خنق اقتصادي ممنهج بهدف دفع الناس للهجرة الطوعية.
الهدف من ذلك لا يحتاج إلى كثير من التحليل؛ فالاحتلال يسعى إلى ربط مستوطنات الجنوب – مثل “غوش عتصيون” – بالقدس المحتلة عبر شريط استيطاني متصل، الأمر الذي يعني عمليًا تفكيك التجمعات الفلسطينية في بيت لحم وتحويلها إلى جيوب معزولة ومحاصرة، فاقدة للحياة والتواصل الطبيعي مع محيطها. قرية الولجة، بموقعها الاستراتيجي بين القدس وبيت لحم، تقف حجر عثرة أمام هذا المخطط، لذلك فإن إزالتها أو تحييدها جغرافيًا من خلال الحواجز والمصادرة، يُعد أولوية إسرائيلية منذ سنوات.
عملية متكاملة لربط المستوطنات
النقطة الأكثر فتكًا في هذا المخطط تتمثل في الاستيلاء على “عين الحنية”، وهي واحدة من أجمل ينابيع القدس الطبيعية، وتقع على الخط الأخضر، وكانت حتى وقت قريب موقعًا ترفيهيًا ومتنفسًا لسكان القرية ومناطق عدة من الضفة الغربية. اليوم، يُمنع الفلسطينيون من الوصول إليها، تمهيدًا لتحويلها إلى مستعمرة إسرائيلية جديدة تحت اسم “عين يائيل”. هذه التسمية ليست مجرد تفصيل، بل هي تأكيد على سعي الاحتلال لتغيير المعالم الديموغرافية والثقافية والطبيعية للمنطقة.
المشروع لا يقف عند حدود الولجة. وفقًا لمعهد أريج، هناك عملية متكاملة لربط المستوطنات: توسعة “هار جيلو”، ربط “ناحيل حيلتس” بالبؤرة غير الشرعية “سيدي بوعز”، ودمج هذه الكتل الاستيطانية في مشروع استعماري كبير يحوّل التجمعات الفلسطينية إلى جزر محاصرة بين كتلتين استيطانيتين: واحدة شمالية غربية (القدس)، وأخرى جنوبية (غوش عتصيون). وما يُعزز هذه الاستراتيجية هو وجود طريق استيطاني استراتيجي، تم تأهيله لربط المستعمرات ببعضها، بعيدًا عن المسارات الفلسطينية، مما يعكس تصميم الاحتلال على فرض سيادة إسرائيلية كاملة وغير قابلة للعكس.
مشاريع التهويد في القدس والضفة
الولجة، إذًا، ليست فقط قرية على الخريطة، بل هي معركة على الأرض والحق والرواية. ما يُنفّذ اليوم هو عملية إحلال بطيئة، تُمارس بصمت وسط تجاهل دولي، في ظل حرب مفتوحة على غزة تستقطب الاهتمام العالمي، وتُستخدم كغطاء سياسي لإتمام مشاريع التهويد في القدس والضفة.
الاحتلال يراهن على الإنهاك، على استسلام الناس، وعلى الخنق التدريجي الذي يجعل من البقاء خيارًا مستحيلًا. لكنه يغفل عن أن الولجة، وأمثالها من القرى الصامدة، لا تزال تمثل ذاكرة حية لنكبة لم تنتهِ، وهوية محفورة في زيتونها وأحجارها، لا يمكن محوها بجدار أو حاجز.