في صباحٍ كأي صباح في غزة، ارتدت الطبيبة آلاء النجار زيها الأبيض، كعادتها، وهي تودّع أبناءها العشرة وتُحمّل قلبها دعاءً بالحفظ والستر. زوجها، الطبيب حمدي النجار، أوصلها بسيارته إلى مجمع “ناصر” الطبي، حيث تعمل اختصاصية أطفال في مستشفى “التحرير”. كانا يعرفان أن الحياة في غزة لا تُعاش.. بل تُنتزع يومًا بيوم، لكنه لم يكن يعلم أن ذلك الصباح سيحمل النهاية التي لا تُكتب حتى في الكوابيس.
محو عائلة كاملة
ما إن عاد حمدي إلى البيت، حتى سقط صاروخ إسرائيلي عليه وعلى أطفاله، ليمحو خلال ثوانٍ عائلة كاملة كانت تضحك منذ لحظات. تسعة أطفال من عائلة واحدة، ضحايا ضغطة زر، وآلة موت لا تعرف للرحمة طريقًا. الطفل العاشر أصيب بجروح، أما الأب، فنُقل إلى العناية المركزة يصارع بين الحياة والموت.
في ذلك الوقت، كانت آلاء في عملها. بين أصوات الإنفجارات، وأصوات الأطفال المصابين، كانت تواسي أمًا مكلومة، وتُسعف طفلًا ينزف، وتهمس لمولودٍ بالكاد يتنفس: “أنت قوي… حتعيش”. كانت تقاوم دمار العالم الخارجي بشيء من الأمل المهني، دون أن تعلم أن عالمها الداخلي قد تفتّت بالكامل.
تضميد الجراح
وعندما علمت، لم تنهار أمام زملائها. لم تصرخ. لم تخلع معطفها الأبيض، ولم تغادر المستشفى. بل بقيت واقفة، يُمسكها الحزن من عنقها، لكنها ما تزال تُمسك يد المرضى.
كيف تبقى امرأة فقدت تسعة من أبنائها تعمل؟ كيف تواصل علاج الأطفال وهي تعلم أن أبناءها الآن جثامين في ثلاجة المستشفى نفسها التي تقف فيها؟
الجواب بسيط ومعقد في آنٍ واحد: هذه غزة. وهذه أمّهات غزة. لا خيار لديهن سوى النهوض من الركام، وتضميد الجراح، حتى لو كانت الجراح تخصهن.
آلاء ليست فقط طبيبة. هي الآن شاهد حي على ما تعجز الأرقام عن قوله. الأرقام تقول إن هناك 16,503 طفلًا استُشهدوا في غزة منذ بدء العدوان. لكنها لا تخبرك كيف كانت ملامحهم، ولا صوت ضحكاتهم، ولا كم مرة قالوا “ماما” قبل أن يرحلوا. آلاء تعرف. وآلاء تواصل.
أمٌّ تستقبل جثامين أطفالها وتواصل عملها
المدير العام لوزارة الصحة في غزة، الدكتور منير البرش، قال: “هذا ما تعيشه كوادرنا الطبية… الكلمات لا تكفي”. لكن الحقيقة أن الكلمات لا تفي. كيف توصف أمٌّ تستقبل جثامين أطفالها في المشرحة، ثم تمسح دموع غيرها، وتكمل نوبتها كأنها لم تخسر عالمها كله؟
غزة لا تقتل فقط، بل تختبر أقسى أنواع الصبر. وآلاء النجار صارت الآن رمزًا لهذا الصبر. لا لشيء… بل لأنها لم تغادر مكانها. لأنها بقيت. وربما، في تلك اللحظة التي كانت تضع فيها السماعة على صدر طفلٍ لا تعرفه، كانت تسمع نبض قلوب أبنائها التسعة الذين رحلوا. فالحب في غزة لا يُدفن. بل يعود، على هيئة خدمة، وعطاء، وصمود.