التحقيق الذي نشرته صحيفة “هآرتس” يكشف عن واحدة من أكثر الحلقات إثارة للقلق في السلوك الإسرائيلي خلال الحرب على غزة، حيث يبدو أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لا يكتفي بقيادة العمليات العسكرية والسياسية، بل يسعى أيضاً للهيمنة على الملف الإنساني، وتحويله إلى أداة سياسية وأمنية وربما مالية، بعيداً عن أي رقابة أو مساءلة مؤسساتية.
استغلال فاضح للوضع الكارثي في غزة
المؤسسة الجديدة التي أُعلن عنها لتوزيع المساعدات في غزة، والتي سُجلت كمنظمة غير ربحية في سويسرا تحت اسم “مؤسسة غزة الإنسانية”، لا تحمل أي من سمات المنظمات الإنسانية الحقيقية. بل يتضح من خلال التحقيق أن هذه الكيان مجرد واجهة أنشأها مقربون من نتنياهو، على رأسهم السكرتير العسكري رومان غوفمين، ضمن عملية سرية جرت دون علم الأجهزة الأمنية، وبتجاهل متعمد لكافة القنوات الحكومية التقليدية. هذا التجاهل لم يقتصر على الشكليات الإدارية، بل شمل استبعاد الجيش الإسرائيلي ووزارة الدفاع ومنسق أعمال الحكومة، وهو ما يُعد خرقاً خطيراً للبنية المؤسسية التي تحكم عمل الدولة في السياقات الحساسة.
التحقيق يكشف أن اختيار هذه المؤسسة جاء دون أي مناقصة، وأنها مؤسسة “مجهولة” لا تملك تاريخاً في العمل الإنساني أو لوجستيات الإغاثة، ما يفتح الباب على مصراعيه لشكوك كبيرة تتعلق بالفساد، وتضارب المصالح، بل واستغلال فاضح للوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة من أجل تحقيق مكاسب سياسية أو شخصية. وتتعزز هذه الشكوك مع الحديث عن تحويلات مالية بملايين الشواكل دون إشراف أو علم كبار المسؤولين، والتقديرات التي تفيد بأن المشروع سيكلف خزينة الدولة نحو 200 مليون دولار خلال ستة أشهر فقط.
تواطؤ مع جهات أمنية واستخباراتية دولية.
واحدة من الدلالات الأخطر في هذه القضية هي التواطؤ مع جهات أمنية واستخباراتية دولية. فالمسؤول عن المؤسسة الجديدة هو فيل رايلي، ضابط سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وهذا يقودنا إلى سؤال كبير: هل يدور الأمر فقط عن توزيع مساعدات، أم أن هناك أهدافاً أمنية واستخباراتية متقدمة يجري تمريرها عبر قناع إنساني؟ خاصة أن المجموعة ذاتها تقف خلف شركة “أوربيس”، التي شاركت في تأمين محور نتساريم خلال وقف إطلاق النار، وتضم شركة أخرى بدأت بالفعل بتجنيد محاربين قدامى أميركيين، يتقنون لهجات عربية، للقيام بما سُمي بـ”جهود أمنية وإنسانية”.
في هذا السياق، يبدو أن نتنياهو لا يكتفي بالتحكم بمفاصل القرار السياسي والعسكري، بل يسعى أيضاً إلى احتكار إدارة الملف الإنساني، وتوجيهه بما يخدم أجندته الخاصة، سواء عبر خلق قنوات توزيع بديلة للمنظمات الدولية، أو عبر إدخال عناصر استخباراتية ضمن عمليات “المساعدة” في غزة. والأخطر أن هذا يتم في ظل رفض واضح من الأمم المتحدة للتعاون مع هذه المؤسسة، ما يعني أن المجتمع الدولي بات يشكك في النوايا الإسرائيلية بشأن الإغاثة.
تعميق الفساد داخل بنية الحكم الإسرائيلية
ما يحدث هو محاولة لاستخدام المعاناة الفلسطينية كساحة للاستثمار السياسي والأمني، وإعادة تشكيل بيئة غزة ليس فقط من خلال القوة العسكرية، بل عبر السيطرة على الغذاء والدواء والمساعدات، وتحديد من يحصل عليها وكيف، وتحت أي شروط. إنها نسخة ناعمة من الاحتلال، تُدار عبر شركات أمنية خاصة ومؤسسات وهمية، وتحمل في طياتها مشروعاً خطيراً لتطويع المجتمع الغزي عبر الضغط الإنساني.
هذا السلوك لا يمكن فصله عن الطموحات السياسية لنتنياهو، الذي يبدو أنه يحاول خلق منظومة موازية قادرة على خدمة مشروعه، حتى لو كان ذلك على حساب مؤسسات الدولة ذاتها. وهو ما يُنذر بتعميق الفساد داخل بنية الحكم الإسرائيلية، ويُحول العمل الإنساني إلى أداة للابتزاز الجيوسياسي والهيمنة الأمنية.