في مشهد لا يقل قسوة عن الاستعمار العسكري، يتعرض الفلسطينيون في الضفة الغربية إلى حرب من نوع جديد، لا تُشن بالسلاح ولا تُنقل على شاشات الأخبار، بل تُدار من خلف مكاتب البنوك وعبر قيود مصرفية، تكتم أنفاس الاقتصاد الفلسطيني تدريجياً، وتحول العملة ذاتها إلى أداة سيطرة وتجويع.
ما يعيشه الفلسطينيون اليوم تحت عنوان “أزمة فائض الشيقل” ليس إلا تجليًا آخر لأدوات الاحتلال المركبة، التي تمزج بين السيطرة النقدية والتجويع الممنهج والتقييد السياسي، في منظومة تستهدف كسر الاستقلال الفلسطيني حتى في أبسط مظاهره اليومية: المعاملة البنكية.
شلل نقدي في الضفة الغربية
بداية الحكاية تعود إلى اتفاق أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي، حين ألزمت السلطة الفلسطينية باستخدام الشيقل الإسرائيلي كعملة رئيسية، لكنها لم تُمنح السيادة الكاملة لإدارة هذه العملة. فبينما تتراكم مليارات الشواقل سنويًا داخل السوق الفلسطيني بفعل التجارة والعمالة والمقاصة، فإن قدرة البنوك الفلسطينية على التخلص من هذا الفائض مرهونة برضا إسرائيل وبقرار سياسي منها وحدها. وهنا يبدأ الخنق الحقيقي.
إسرائيل، منذ سنوات، فرضت سقفًا لما يمكن أن تستقبله من فائض الشيقل الفلسطيني، لكنها بعد حرب أكتوبر 2023 شددت هذه القيود بشكل فجّ، رافضة استقبال مليارات إضافية من العملة التي تكدّست داخل البنوك. النتيجة كانت واضحة: شلل نقدي في الضفة الغربية، إذ توقفت البنوك عن استقبال الإيداعات من المواطنين، وحددت سقوفًا ضيقة على التعامل بالشيقل، ما خلق حالة من الارتباك العام، وأدى إلى ظهور سوق سوداء، وتذبذب في سعر الصرف، وتراجع ثقة المواطنين في النظام المصرفي.
تقويض قدرة السلطة
الخنق لا يقف عند حدود الاقتصاد، بل يمتد إلى السياسة، لأن هذه الأزمة تُجبر السلطة الفلسطينية على البحث عن حلول في إطار علاقات منتهكة السيادة، تخضع بالكامل للمزاج الإسرائيلي، خصوصًا بعد توقف اللجنة الاقتصادية المشتركة، التي كانت تُعنى سابقًا بحل هذه الأزمات. ما يعني أن الفلسطينيين لا يملكون أي أداة تفاوضية حقيقية أو قنوات فاعلة لتخفيف هذه القيود، بل هم أسرى لقرارات إسرائيلية متعمدة، تهدف في جوهرها إلى تقويض قدرة السلطة على إدارة مجتمعها، ودفع المواطنين تدريجياً خارج النظام الرسمي نحو اقتصاد موازي فوضوي.
وهذا الانهيار المقصود في الثقة المصرفية يحمل في طياته رسائل سياسية خبيثة: لا استقرار بدون إذن إسرائيلي، ولا اقتصاد بدون قيد، ولا نقد بلا إذعان. وهذا ما يضع الفلسطيني، التاجر والعامل والمواطن العادي، في مواجهة مستمرة مع خيارات مستحيلة: إما التعامل مع البنوك بشروط خانقة، أو التحوّل إلى اقتصاد غير رسمي محفوف بالمخاطر، أو الانكفاء إلى ما تحت “البلاطة” في تكرار موجع لمشهد ما قبل الدولة.
تعجيز الفلسطينيين
الاحتلال هنا لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل يمتد إلى الجيب، وإلى فكرة السيادة نفسها. هو لا يريد الفلسطينيين أن يكونوا شركاء، بل تابعين، حتى في طريقة استخدامهم لعملتهم اليومية. وهذا الخنق النقدي، الذي لا يبدو دمويًا في ظاهره، هو في الحقيقة أداة هندسة سياسية تهدف لإبقاء الفلسطينيين في حالة عجز دائم، وعوز مستمر، وإحساس مرير بأنهم لا يملكون حتى الحق في التصرف بأموالهم.
في النهاية، ما يجري في الضفة الغربية من “أزمة الشيقل” ليس أزمة نقدية فقط، بل هو جزء من سياسة احتلال شامل تُمارَس عبر الاقتصاد، وتستهدف البنية الاجتماعية والسياسية والمصرفية للفلسطينيين، وتُهدد بتحويل كل طموح لبناء اقتصاد مستقل إلى سراب، وكل محاولة للانفكاك عن الاحتلال إلى مأزق مالي جديد.