في ظل الحرب الإسرائيلية المستمرة على غزة وما خلفته من دمار غير مسبوق وأعداد مهولة من القتلى والجرحى، تعود مفردات مثل “الإبادة الجماعية” و”الاستعمار الاستيطاني” و”التطهير العرقي” إلى صدارة الخطاب الحقوقي العالمي. هذه المفردات التي طالما جرى التهرب منها سياسيًا أصبحت اليوم تُستخدم بوضوح، كما فعلت “محكمة غزة” التي انعقدت في سراييفو، حيث أدانت إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب ضد الفلسطينيين.
لكن السؤال الأهم ليس فقط في قوة البيان، بل في جدوى هذه الأحكام وفعاليتها على الأرض.
تاريخيًا، تعاني المحاكم الرمزية والشعبية من ضعف القدرة التنفيذية، إذ لا تمتلك سلطة فعلية لفرض قراراتها، ولا تُعترف بها بالضرورة في الأطر القضائية الدولية الرسمية مثل محكمة العدل الدولية أو المحكمة الجنائية الدولية. محكمة غزة، رغم شرعيتها الأخلاقية والرمزية العالية، تُحاكم إسرائيل غيابيًا، ولن تتمكن من إصدار أو تنفيذ مذكرات توقيف، ولن توقف الطائرات التي تُمطر غزة بالنار.
الصمت العالمي المتواطئ
في الواقع، محكمة غزة تمثل اختراقًا أخلاقيًا وسياسيًا في جدار الصمت العالمي المتواطئ. فهي لا تحاكم إسرائيل فقط، بل تُدين عجز النظام الدولي، وتكشف هشاشة المؤسسات القانونية الرسمية التي فشلت حتى الآن في اتخاذ موقف حازم ضد دولة تنفذ جرائم موثقة بالأقمار الصناعية وكاميرات الهواتف وبثوث الأخبار.
أهمية المحكمة تنبع من عدة مستويات:
الرمزية العالمية: حين يجتمع قضاة ومفكرون وحقوقيون من خلفيات ثقافية وقانونية متعددة ليصفوا ما يحدث في غزة بـ”الإبادة”، فإن ذلك يُعيد صياغة الخطاب العالمي، ويُحرج الدول التي ما زالت تدعم إسرائيل سياسيًا وعسكريًا. تصبح الإدانة ليست فقط من “العرب والمسلمين” بل من مجتمع دولي مدني واسع.
الشهادات ستتحول إلى أدلة
الوثائق والشهادات: المحكمة، وخاصة في جلستها المرتقبة في إسطنبول، ستجمع شهادات لضحايا وناجين، وستوثقها في سجل قانوني وأخلاقي لا يسقط بالتقادم. هذه الشهادات ستتحول إلى أدلة في أي محكمة مستقبلية يمكن أن تُفتح يومًا ما في لاهاي أو في عواصم أوروبية.
الضغط الشعبي والمؤسساتي: المحاكم الرمزية كانت على مر التاريخ نقاط تحوّل في معارك التحرر. هكذا حدث مع حرب فيتنام، وهكذا جرت محاكمات رمزية للصهيونية، للفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ولجرائم أمريكا اللاتينية. هذه المحاكم لا تُسقط الأنظمة، لكنها تُغيّر طريقة النظر لها، وتُعمق عزلتها السياسية.
لكن التحدي يبقى في الفجوة بين الحقيقة الأخلاقية والحقيقة السياسية. فإسرائيل، المحمية بتحالفات دولية متينة، تتصرف كما لو كانت فوق القانون. كل إدانات العالم لم توقف عدوانها، وكل محاولات التحرك القانوني في الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية تواجه عراقيل سياسية.
جدوى الأحكام ضد إسرائيل
وهنا يُطرح سؤال آخر أكثر مرارة: هل نحتاج إلى محكمة رمزية كي نقول إن آلاف الأطفال الذين استشهدوا في غزة جريمة؟ أم أن ما يجري هو محاولة أخيرة لكتابة الحقيقة قبل أن تبتلعها القوة؟
الجواب المؤلم هو أن المحاكم الرمزية مثل “محكمة غزة” قد لا توقف الصواريخ، لكنها توقف الكذب، وتؤسس لذاكرة قانونية قد تُصبح في يوم ما أساسًا لمحاكمة فعلية. هي ليست نهاية الطريق، لكنها بداية التأريخ الحقيقي لما يحدث، بلغة لا تخضع للرقابة أو للمصالح.
وفي هذا السياق، فإن جدوى الأحكام ضد إسرائيل ليست في تنفيذها اليوم، بل في أنها تؤسس لما بعد هذا الزمن المختل، وتكسر احتكار الرواية، وتُدخل إلى الوعي العالمي ما تحاول الحكومات إخفاءه: أن ما يحدث في غزة، ببساطة، هو جريمة إبادة في وضح النهار.