في خضم واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في قطاع غزة منذ عقود، برزت مبادرة “مؤسسة غزة الإنسانية” كمحاولة لإيصال المساعدات إلى السكان الذين أنهكهم الحصار والمجاعة. جاءت هذه المبادرة بدعم مباشر من الولايات المتحدة وإسرائيل، عقب حصار إسرائيلي خانق دام 11 أسبوعًا، أُغلقت خلاله كافة المعابر، ومنع إدخال الغذاء والدواء والماء، مما تسبب في مجاعة حادة بين سكان القطاع.
المؤسسة التي وُصفت بأنها مبادرة إنسانية، وُضعت تحت مجهر الانتقادات الدولية بعد تقارير موثقة تتحدث عن استهداف الاحتلال الإسرائيلي لحشود المدنيين الذين تجمعوا حول نقاط توزيع المساعدات. فقد تحولت مراكز توزيع الغذاء – التي يفترض أن تكون ملاذًا آمنا للمحتاجين – إلى “مصائد موت”، بحسب منظمات حقوقية.
انسحاب مجموعة بوسطن الاستشارية: انهيار هندسة المشروع
كشفت صحيفة واشنطن بوست أن مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG)، وهي الشركة الأمريكية التي ساهمت بشكل كبير في تصميم العمليات التجارية للمؤسسة، قد أنهت عقدها وسحبت فريقها من الميدان. يأتي هذا التطور المفاجئ بعد استقالة اثنين من كبار التنفيذيين فيها، في خطوة تعكس حجم التصدعات التي بدأت تظهر في بنية المشروع منذ الأسبوع الأول لتدشينه.
الشركة، التي كان لها دور محوري في التنسيق مع إسرائيل وتحديد الأسعار لتشغيل مراكز التوزيع الأربعة في جنوب غزة، اعتبرت أن الوضع لم يعد يحتمل الاستمرار، خصوصًا في ظل الاتهامات المتزايدة بضلوع المؤسسة – بشكل غير مباشر – في تسهيل عمليات الاستهداف الإسرائيلي للمدنيين.
ورغم إعلان الشركة أنها لم تتقاضَ أي أجر لقاء دعمها للمبادرة، فإن مصادر أخرى مطلعة على العمليات كشفت أن BCG كانت تصدر فواتير شهرية بمبالغ تفوق مليون دولار، ما يعزز الشكوك حول الطابع “الإنساني الخالص” للمشروع.
تحفظات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية: عزلة متعمدة أم رفض للمشاركة؟
من المثير للانتباه أن الأمم المتحدة ومعظم شركائها من منظمات الإغاثة الدولية رفضوا المشاركة في عمليات “مؤسسة غزة الإنسانية”. هذا الرفض لم يأتِ عبثًا؛ فقد اعتبرت هذه المنظمات أن المشروع يفتقر إلى الشفافية، ويخضع لإدارة سياسية مشبوهة أكثر من كونه جهدًا إنسانيًا محايدًا.
وتطرح التحفظات أسئلة جوهرية حول ما إذا كانت المؤسسة وسيلة لتلميع صورة الاحتلال الإسرائيلي، أكثر من كونها مبادرة لإنقاذ المدنيين. فالتنسيق الوثيق مع تل أبيب، وتجاهل الهيئات الأممية، إضافة إلى التصعيد الميداني ضد المدنيين المتجمعين في محيط مراكز التوزيع، كلها مؤشرات على أن المشروع ربما أُنشئ لخدمة أجندات تتجاوز المساعدات الغذائية.
فخاخ الغذاء: عندما تتحول المساعدات إلى أدوات حرب
أكثر ما أثار الجدل هو تقارير إطلاق النار من قبل الجيش الإسرائيلي على المدنيين أثناء تدافعهم لاستلام المساعدات. ففي لحظة كانت يُفترض أن تكون عنوانًا للتكافل الإنساني، تحولت ساحة توزيع الغذاء إلى مسرح لمجزرة أخرى.
هذه الحوادث ألقت بظلال قاتمة على مصداقية المؤسسة، وجعلت من استمرارها عبئًا أخلاقيًا، ليس فقط على الجهات الداعمة بل على كل من حاول أن يضفي شرعية إنسانية على عملياتها. ولم تعد المسألة تتعلق بتوزيع الغذاء، بل باستخدام المجاعة كأداة ضغط وتطويع.
أرقام مشكوك فيها: رواية المؤسسة في مرمى الانتقاد
في رسالة إلكترونية أرسلتها المؤسسة يوم الثلاثاء، أفادت بأنها وزعت أكثر من 7 ملايين وجبة خلال الأيام الثمانية الأولى من عملياتها. ورغم ضخامة الرقم، إلا أن الشكوك تحيط بمصداقيته، لا سيما في ظل محدودية البنية التحتية في غزة تحت الحصار، وتعقيد الوصول إلى المدنيين دون غطاء منظمات أممية.
وتُعد هذه الرواية جزءًا من محاولة لاحتواء الانهيار الإعلامي الذي تواجهه المؤسسة بعد انسحاب BCG، وهي خطوة تبدو أقرب إلى استراتيجية علاقات عامة، منها إلى عرض حقائق ميدانية.
نهاية مشروع أم بداية كشف أكبر؟
انسحاب مجموعة بوسطن الاستشارية لا يشكل فقط نهاية فعلية لمشروع “مؤسسة غزة الإنسانية”، بل يمثل لحظة انكشاف لمستوى تسييس العمل الإغاثي في غزة. فالمشروع الذي بدأ كاستجابة لحالة الطوارئ، انتهى إلى كونه أداة سياسية بغطاء إنساني، سقط عنه القناع سريعًا أمام الرأي العام الدولي.
ومع استمرار المجاعة في غزة، وغياب البدائل الحقيقية، تبقى المسؤولية على عاتق المجتمع الدولي لإيجاد آليات إنسانية غير مسيّسة، تضمن إيصال المساعدات إلى المدنيين دون أن تُستغل معاناتهم كأوراق في صراع دموي طويل.