تشهد إسرائيل هذه الأيام واحدة من أكثر المراحل السياسية اضطراباً منذ عقود، حيث تتقاطع الأزمات الدستورية، والعسكرية، والدينية، في لحظة حرجة يُهدّد فيها الائتلاف الحكومي بقيادة بنيامين نتنياهو بالانهيار. وليس من المبالغة القول إن الصدع الذي نشأ حول مسألة تجنيد الحريديم (اليهود المتدينين المتشددين) تجاوز كونه خلافاً تقنياً على بنود قانون، ليُصبح أزمة هوية تمزّق النسيج السياسي والاجتماعي الإسرائيلي من الداخل.
تجنيد الحريدية
فبينما يُكافح الجيش الإسرائيلي لسدّ عجز خطير في الموارد البشرية بعد 18 شهراً من الحرب على غزة، تتمسك الأحزاب الحريدية بإعفاء كامل من التجنيد، مدفوعة بإيمان ديني صارم بأن دراسة التوراة تُعادل خدمة الوطن، بل تتفوق عليها روحياً. هذا الرفض ليس جديداً، لكنه في هذا التوقيت الحساس بات له كلفة سياسية باهظة، تهدد بتفكيك الائتلاف، ودفع البلاد إلى انتخابات جديدة قد تُعيد خلط أوراق النظام السياسي برمّته.
رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي لطالما تميز بقدرته على المناورة بين التناقضات داخل معسكره، يجد نفسه اليوم محاصراً. من جهة، يواجه ضغوطاً داخلية من الجيش والشارع وخصومه السياسيين للمضي قدماً في تجنيد الحريديم على خلفية الحاجة الأمنية الملحة.ومن جهة أخرى، يواجه تمرداً شبه علني من الأحزاب الدينية التي تشكل حجر الزاوية في ائتلافه. هذه الأحزاب لم تكتفِ بالتهديد، بل شرعت فعلياً بخطوات تقود نحو حل الكنيست، بما في ذلك دعم قانون يُنهي الدورة البرلمانية الحالية ويفتح الباب أمام انتخابات جديدة، في وقت يعتبر فيه نتنياهو أن أي انتخابات مبكرة ستكون بمثابة انتحار سياسي له شخصياً، خاصة مع استمرار محاكمته في قضايا فساد.
انقسامات داخل الحزب الحاكم
في قلب هذا المشهد المتوتر، يظهر اسم بولي إدلشتاين، رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، كفاعل رئيسي، ليس فقط لأنه يقود محاولة صياغة قانون تجنيد شامل، بل أيضاً لأنه يُعدّ منافساً قديماً لنتنياهو داخل الليكود، وتعرّض للتهميش سابقاً. الفشل الذي مني به في محادثاته مع الحريديم، قد يُستخدم ذريعة لإقالته، لكن هذه الخطوة قد تؤجج المزيد من الانقسامات داخل الحزب الحاكم نفسه، حيث هناك تيار لا يخفي امتعاضه من طريقة نتنياهو في إدارة الأزمات.
وفي هذا الإطار، تتعزز المخاوف من انفراط عقد الائتلاف في حال انسحب حزب شاس، الذي يملك 11 مقعداً، إلى جانب “يهدوت هتوراة”. عندها سيفقد الائتلاف أغلبيته الضئيلة، وستصبح الحكومة في حكم المنتهية عملياً. الخطورة هنا لا تكمن فقط في الذهاب إلى انتخابات مبكرة، بل في احتمال أن تُفرز هذه الانتخابات خريطة سياسية مختلفة تُضعف نفوذ التيار الديني المتشدد، وربما تُعيد تسليط الضوء على قضايا أخرى، مثل الحرب المستمرة على غزة، وأزمة المختطفين، والانقسام الداخلي المتنامي حول طبيعة الدولة الإسرائيلية.
في المقابل، المعارضة، بقيادة يائير لابيد، ترى في هذا التصدع فرصة ثمينة. هي تتحرك بسرعة لاقتناص لحظة التفكك وتقديم مشروع قانون لحل الكنيست، وسط تزايد الدعم الشعبي لفكرة إنهاء هذا الائتلاف المتأزم. لكن لا ضمانات حتى الآن بأن هذه المبادرة ستنجح، فحل الكنيست يتطلب ثلاث قراءات، ويعتمد على مواقف متأرجحة داخل أحزاب اليمين، بعضها لا يزال يراهن على بقاء الحكومة حتى نهاية الدورة الصيفية.
تنبؤات بانهيار حكومة نتنياهو
ما يزيد المشهد تعقيداً أن هذه الأزمة تأتي في وقت حرج للغاية بالنسبة لنتنياهو، الذي يواصل المثول أمام المحكمة في واحدة من أكثر المحاكمات السياسية حساسية في تاريخ إسرائيل. مرحلة “الاستجواب المضاد” التي يمر بها حالياً تتطلب حضوراً ذهنياً واستراتيجياً مكثفاً، وهو ما يتناقض مع تفرغه الكامل لتسوية خلافات حكومية تهدد مستقبله السياسي.
الرهان الأكبر الآن ليس على ما إذا كانت الحكومة ستنهار، بل متى ستنهار، وبأي ثمن. هل سيستطيع نتنياهو تجاوز الصيف والخروج إلى دورة الكنيست الشتوية بائتلاف متماسك؟ أم أن الضغوط الداخلية، والشرخ العميق حول قضية التجنيد، ستفرض واقعاً جديداً يقلب الطاولة على الجميع؟
في المشهد الإسرائيلي، لا شيء محسوم. لكن المؤكد أن الأزمة الحالية تجاوزت الخلاف السياسي التقليدي، وأصبحت اختباراً لقدرة إسرائيل على التوفيق بين التزاماتها الأمنية وواقعها الديني والاجتماعي المتشظي. وكلما طال أمد الأزمة، زاد احتمال انفجارها.