منذ اندلاع الحرب على غزة عقب أحداث 7 أكتوبر 2023، تتصاعد الأسئلة السياسية والأخلاقية حول أهداف العمليات العسكرية الإسرائيلية، لا سيما في ظل استمرار استهداف المدنيين، وغياب شبه تام للإعلان عن مقتل عناصر بارزين من حركة حماس، رغم الادعاء المتكرر بأن الضربات تستهدف “البنية التحتية الإرهابية”. هذه المفارقة بين الخطاب المعلن والنتائج الميدانية الفعلية تُثير جدلاً داخليًا ودوليًا متصاعدًا، وتكشف عن أبعاد أكثر تعقيدًا من مجرد “حرب على الإرهاب”.
استهداف المدنيين
منذ فجر اليوم، كما أفاد الدفاع المدني الفلسطيني، استشهاد 15 شخصاً على الأقل في سلسلة غارات استهدفت منازل مدنيين وخيمة تؤوي نازحين، بينما استشهد 4 صحفيين في قصف بطائرة مسيّرة قرب مستشفى المعمداني. مثل هذه الحوادث ليست استثناءً، بل باتت نمطًا متكررًا في حرب باتت تستهدف النسيج المدني بأكمله في غزة، من منازل ومخيمات ومستشفيات ومدارس.
إسرائيل تبرر هذه الضربات بأنها جزء من حرب شاملة ضد “حماس”، لكنها نادراً ما تُقدّم دلائل ملموسة على مقتل قيادات أو مقاتلين مهمّين في هذه الغارات. ما يُنشر بشكل رسمي يركز في الغالب على مشاهد دمار، و”صور جوية” لما يُقال إنها “بنى تحتية عسكرية”، لكن من دون أسماء، أو تأكيدات واضحة على أن المستهدفين بالفعل ينتمون لحماس، أو كانوا في حالة قتال.
كسر الإرادة المدنية
هذه الازدواجية بين الخطاب السياسي والواقع الدموي على الأرض تطرح عدة احتمالات:
أولاً، أن العمليات الإسرائيلية تسعى إلى كسر الإرادة المدنية، من خلال جعل كلفة الدعم الشعبي لحماس باهظة جدًا، وذلك عبر معاقبة السكان مباشرة، وتحويل غزة إلى بيئة غير صالحة للعيش، لإجبار المجتمع على الضغط الداخلي على الحركة.
ثانيًا، أن هناك عجزًا استخباراتيًا في تحديد أماكن تواجد القيادات والعناصر النشطة لحماس، خاصةً بعد أشهر طويلة من العمليات المكثفة، وهو ما ينعكس في ارتفاع عدد الضحايا المدنيين مقابل غياب واضح لأهداف عسكرية حقيقية.
وثالثًا، أن هناك إستراتيجية مقصودة بتوسيع قاعدة القتل والتدمير، كجزء من رؤية إسرائيلية أكبر للسيطرة على كامل القطاع، بعد تفكيك نسيجه السياسي والاجتماعي والسكاني، وهو ما عبّرت عنه تل أبيب أكثر من مرة بإشارات مباشرة إلى “اليوم التالي لغزة”، وكأن المطلوب هو إعادة تشكيل القطاع من جديد.
محرقة إنسانية
كل هذا يجري في ظل صمت دولي متواطئ أحيانًا، وعاجز في أحيان كثيرة، بينما يُستخدم شعار “محاربة الإرهاب” كمظلّة تُبرر ما يبدو أحيانًا كعمليات انتقام جماعي أكثر منه عملاً عسكريًا دقيقًا ومحدد الأهداف.
المفارقة الأخطر تكمن في أن هذه العمليات، بدلاً من تقويض حماس، تُغذي في الواقع دورة الكراهية والتطرف، وتزيد من احتمالات خلق أجيال جديدة أكثر غضبًا وأشد راديكالية، ترى في المقاومة، بأي ثمن، الخيار الوحيد للبقاء.
وفي نهاية المطاف، فإن استمرار القصف العشوائي أو المتعمد على المدنيين، من دون تقديم أي أدلة على تحقيق أهداف عسكرية، يُحوّل الحرب إلى محرقة إنسانية مفتوحة، تهدم مبدأ التناسب، وتضرب جوهر القانون الدولي في مقتل، وسط صمت عالمي يُعيد إلى الأذهان مشاهد تاريخية دامية لم تحظَ وقتها أيضًا بأي عدالة حقيقية.