تحذير الأمم المتحدة الأخير بشأن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة يعكس مستوى غير مسبوق من التدهور في الوضع المعيشي، ويكشف عن فشل فعلي في إيصال المساعدات إلى السكان المتضررين، رغم إعلان إسرائيل رفع الحصار جزئياً منذ منتصف مايو. التصريحات التي أدلى بها نائب المتحدث باسم الأمم المتحدة، فرحان حق، تُبرز بوضوح عمق الأزمة، ليس فقط من حيث نقص الإمدادات الغذائية، بل أيضاً من ناحية تآكل البنية الاجتماعية والأمنية في القطاع، وهو ما يتجلى في الاستيلاء على المساعدات من قبل مجموعات مسلحة وسكان جائعين.
نهب المساعدات
الكمية المحدودة من الطحين التي استطاعت المنظمة إدخالها – 4600 طن متري فقط – لا تغطي سوى جزء ضئيل من الاحتياجات الإنسانية، وهي كافية بالكاد لثمانية أيام من الخبز، بناءً على الحد الأدنى من الاستهلاك. هذا الرقم، عندما يوضع في سياق الحاجة الفعلية التي تتراوح بين 8000 إلى 10000 طن متري، يُظهر فجوة خطيرة في الاستجابة الإنسانية، ويدق ناقوس الخطر حول ما يمكن أن يتحول إلى مجاعة شاملة، لا سيما وأن بعض التقارير تشير إلى تضاعف معدلات سوء التغذية الحاد بين الأطفال الصغار ثلاث مرات تقريباً.
ورغم أن إسرائيل سمحت باستخدام معبر كرم أبو سالم كممر وحيد لدخول المساعدات، إلا أن استمرار اعتماد نقطة عبور واحدة يمثل عنق زجاجة لوجستياً وأمنياً، ويعني فعلياً أن المساعدات التي تصل لا تلبث أن تتعرض للنهب أو تفقد وجهتها بسبب الفوضى الناجمة عن الجوع واليأس والانهيار الأمني. وهذا ما أكده حق عندما أشار إلى أن معظم الطحين تمت مصادرته قبل أن يصل إلى مستحقيه.
رحلة الكارثة المعقدة
ما يزيد من خطورة الوضع هو تعقيد المشهد السياسي والإنساني، في ظل رفض الأمم المتحدة التعاون مع مؤسسة غزة الإنسانية الجديدة المدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة. هذه المؤسسة، التي تُثار حولها اتهامات بغياب الحيادية وبتسييس المساعدات وتحويلها إلى أداة ضغط على النازحين، تُعد مثار جدل داخل أروقة العمل الإنساني. رفض الأمم المتحدة هذا النموذج يعكس تخوفاً مشروعاً من عسكرة المساعدات وتحويلها من وسيلة إنقاذ إلى أداة صراع.
في ظل هذا الواقع، تظهر تصريحات الأمم المتحدة بمثابة تحذير عاجل من انهيار كامل للنظام الإنساني في القطاع، ما لم يتم فتح المزيد من المعابر وتوسيع نطاق المساعدات بصورة عاجلة، وبآليات تضمن وصولها إلى المدنيين وليس إلى الفاعلين المسلحين. الوضع في غزة لم يعد مجرد “أزمة إنسانية” بالمعنى التقليدي، بل دخل مرحلة الكارثة المعقدة، حيث يتداخل الجوع بالفوضى الأمنية والانهيار المؤسسي، وسط انسداد سياسي يعرقل أي حل مستدام.
إذا استمرت هذه المعادلة على حالها، فإن التحذيرات من المجاعة لن تبقى مجرد تقديرات استباقية، بل ستتحول إلى واقع مرير يُهدد حياة مئات الآلاف من المدنيين، خصوصاً الفئات الأضعف، كالأطفال والنساء والمرضى.