حين اختارت إسرائيل أن توجه ضربتها الأخيرة نحو منشآت داخل إيران، لم يكن الأمر مجرد خطوة ضمن سياق النزاع النووي، بل انعكاس لتحول عميق في موقع غزة داخل العقل الاستعماري الإسرائيلي. فغزة، بما راكمته من رمزية ومأساة، باتت مرآة مأزق حقيقي، مأزق يفضح حدود القوة في مواجهة شعب محاصر، ويكشف الانحدار الأخلاقي في مشروع لا يزال يستند إلى منطق الاستيطان والإقصاء. ومع تزايد النقد الدولي وتآكل السند الغربي التقليدي، بدت إسرائيل كمن يبحث عن عدو أكثر تجريدا وأبعد عن الكاميرات، لتعيد ترتيب المشهد وفق منطقها الأمني المعتاد. وهكذا، وجدت في طهران مخرجا مؤقتا من الورطة الأخلاقية والسياسية التي خلفتها آلة الحرب في غزة.
في هذا السياق، لم تكن الضربة العسكرية لإيران حدثا معزولا، بل جزءا من محاولة استعمارية لإعادة تموضع الخطاب، عبر قفز مدروس فوق جغرافيا المقاومة اليومية. فعلى عكس ما تروج له إسرائيل، لا يبدو أن طهران كانت على وشك تفجير أزمة نووية وشيكة، بقدر ما كانت تستخدم لتجديد صورة “العدو الخارجي” القادر على امتصاص الغضب الدولي المتصاعد تجاه جرائم رفح وخان يونس. بعبارة أوضح، تحاول إسرائيل استثمار الصراع مع إيران لإعادة بناء شرعية مفقودة، وتصدير الأزمة بدل تحمل تبعاتها أمام العالم.
لكن أعمق ما في هذه الخطوة هو ما تخفيه: ليست إيران، في تقدير المؤسسة الإسرائيلية، مجرد خطر أمني، بل عقدة رمزية تقض مضاجع المشروع الاستعماري نفسه. فمنذ سنوات، تحاول إسرائيل الحفاظ على تفوقها الإقليمي عبر ترسيخ توازن هش تقوم فيه هي بدور المتفوق الوحيد، سواء عسكريا أو تقنيا. وأي تموضع إقليمي مستقل خارج هذا التوازن، حتى لو لم يكن ديمقراطيا أو مثاليا، ينظر إليه باعتباره تهديدا لمنطق الهيمنة الذي تأسس منذ نكبة 1948. لذلك، فإن الضربة لا تنفصل عن رغبة استعمارية تقليدية في كبح كل مشاريع الاستقلال السيادي، لا حبا في الاستقرار، بل دفاعا عن هندسة استعمارية اختارت القوة قانونا والبقاء هدفا بذاته.
التحول نحو طهران، بهذا المعنى، ليس قرارا أمنيا بحتا، بل رد فعل استراتيجي على إخفاق إسرائيل في كسر إرادة غزة. إنها محاولة لتوسيع الحريق شرقا بعدما استعصى عليها إخماده جنوبا. وكما فشلت حملات القصف في إنهاء صوت اللاجئين تحت الخيام، تسعى اليوم لإشغال المنطقة بجبهة جديدة، أملا في تغطية تلك الفجوة التي أحدثتها الكلفة الأخلاقية لعدوانها على المدنيين. فالعالم، وإن تأخر، بدأ يكتشف هشاشة الرواية التي لطالما قدمت إسرائيل كمجرد “دولة محاصرة” تدافع عن نفسها، فيما الصور القادمة من رفح تروي شيئا مختلفا تماما.
ولا يغيب عن هذا المشهد البعد الأمريكي. فالتحالف مع واشنطن لا يزال يمثل شبكة الأمان الكبرى للمشروع الإسرائيلي. والإدارة الأمريكية، التي تواجه انتقادات غير مسبوقة في الداخل والخارج بسبب دعمها المفتوح للعدوان على غزة، وجدت في التصعيد تجاه إيران فرصة لتغيير اتجاه البوصلة نحو خطاب أكثر قبولا لدى الرأي العام: “منع انتشار الأسلحة النووية”. وقد تكون هذه الضربة قد نفذت تحت غطاء غير مرئي من الرضا الأمريكي، حفاظا على توازن حليف مأزوم، لا لأنه مهدد، بل لأنه يهدد بالانكشاف.
لماذا الآن؟ لأن إسرائيل، في لحظة غير مسبوقة، بدأت تخسر معركتها الرمزية. ثقة العالم في سردية “الردع المشروع” تتآكل، والحصانة الأخلاقية التي حظيت بها لعقود تهتز. كما أن قدرة الاحتلال على ضبط الجبهات الداخلية والخارجية لم تعد مضمونة. وكلما ازدادت الأدلة على المجازر، وكلما تزايدت الكاميرات والشهادات، ضاق الهامش أمام أي محاولة لتبرير الفعل الاستعماري. ومن هنا، فإن تفجير جبهة خارجية يصبح وسيلة كلاسيكية للهروب: من المأزق الأخلاقي، من ضغط الحلفاء، ومن أسئلة الداخل الإسرائيلي نفسه.
قد تنجح إسرائيل، لبعض الوقت، في تحويل الانتباه نحو طهران، لكنها لا تملك مفاتيح السرد كما في الماضي. الكاميرات التي دخلت رفح لا تقصف، والوعي العالمي لا يقصف. والشرعية، التي كانت تمنح بسهولة في السابق، أصبحت اليوم تطالب بالبرهان. وبينما يحترق المشهد، يظل السؤال معلقا: هل يمكن لنار جديدة أن تخفي رمادا لم يعد يخدع أحدا؟ وهل تستطيع قوة استعمارية، مهما تنوعت أدواتها، أن تُطفئ شعلة مقاومة ولدت من رحم الحصار؟